المقدمة
تحوّل النفط خلال العقد الاخير من مجرد سلعة استراتيجية إلى أداة ضغط جيوسياسي تستخدمها الدول الكبرى لإعادة تشكيل موازين القوة، وبرز هذا التحول بوضوح بعد الغزو الروسي لاوكرانيا في فبراير 2022، حين تحركت الولايات المتحدة والاتحاد الاوروبي ومجموعة السبع لفرض حزم واسعة من العقوبات شملت وضع سقف سعري على النفط الروسي المنقول بحراً عند 60 دولاراً للبرميل، مع ربط خدمات الشحن والتأمين والتمويل الغربي بالتقيد بهذا السقف.في المقابل، أعادت روسيا توجيه جزء كبير من صادراتها النفطية من أوروبا نحو آسيا، لتصبح الهند والصين خط الحياة الأساس لعائدات الطاقة الروسية.وبحكم كونها ثالث أكبر مستهلك ومستورِد للنفط عالمياً، يعتمد على الواردات لتغطية أكثر من 85%من احتياجاته النفطية مع نمو سريع في الطلب، وجدت الهند نفسها في قلب هذه المعادلة الجديدة:دولة نامية تسعى إلى الحفاظ على وتيرة نمو مرتفعة، وفي الوقت نفسه تواجه ضغطاً غربياً متزايداً لاصطفاف أوضح في معسكر العقوبات(IEA,2024;OPEC,2025;Reuters,2025).
منذ 2022 قفزت حصة النفط الروسي في واردات الهند من مستويات هامشية قبل الحرب إلى نحو ثلث سلة الواردات، بل اقتربت من 40%في بعض الفترات بين 2023 و2024، مستفيدة من خصومات سعرية عميقة على خام الأورال مقارنة بخامات الشرق الأوسط(Verma,2023;DGCI&S,2025;Reuters,2025).هذا السلوك أثار انتقادات أوكرانية وغربية صريحة، بعضها ذهب إلى حد اتهام نيودلهي بتمويل الحرب الروسية، لكن وزير الخارجية الهندي رد مراراً بأن أوروبا نفسها واصلت شراء كميات أكبر من الطاقة الروسية لفترات طويلة، مشدداً على أن الهند ستشتري من"أرخص مورد متاح"ما دام غير خاضع مباشرة للعقوبات.من هنا تنطلق هذه الورقة لتحليل سؤال مركزي:لماذا اختارت الهند البراغماتية الطاقوية بدلاً من الاصطفاف السياسي؟ وكيف تحولت براميل النفط نفسها إلى"لغة تفاوضية"تستخدمها القوى الكبرى للضغط على نيودلهي واستمالتها؟ ومن الرابح والخاسر من هذا التوتر بين أمن الطاقة في الجنوب العالمي واستراتيجية العقوبات الغربية؟
المحور الأول:الهند بين الحاجة للطاقة وصعودها كقوة اقتصادية–لماذا لا تستطيع نيودلهي الانحياز لواشنطن؟
في المحور الأول، تبرز حاجة الهند المتزايدة للطاقة كعدسة أساسية لفهم سلوكها في ملف النفط الروسي.فالهند اليوم هي أسرع محرك لنمو الطلب على الطاقة في العالم؛ تقديرات وكالة الطاقة الدولية ومنظمة أوبك تشير إلى أن الهند وحدها ستشكل نحو ربع نمو الطلب العالمي على النفط في 2024–2025، مع ارتفاع الاستهلاك من نحو 5.5 ملايين برميل يومياً في 2024 إلى ما يقارب 5.7 ملايين في 2025، وبوتيرة نمو تفوق الصين(IEA,2024;OPEC,2025;Reuters,2025).هذا الطلب لا يعكس ترفاً استهلاكياً فقط، بل يعبر عن اقتصاد ضخم في طور التصنيع والتحضر، يحتاج إلى ديزل للنقل والبنية التحتية، وغاز مسال للطهي، ووقود للصناعات الثقيلة.فبيانات نوفمبر 2025 مثلاً تظهر أن الطلب على الوقود في الهند وصل إلى 21.27 مليون طن، في أعلى مستوى منذ ستة أشهر، مع قفزة بارزة في استهلاك الديزل تجاوزت 12%على أساس شهري، ما يعكس ارتباطاً مباشراً بين نمو الاستهلاك الطاقوي والتوسع في النقل والأعمال.وبما أن الهند تستورد أكثر من 85%من احتياجاتها من النفط الخام، فإن أي ارتفاع حاد في الأسعار العالمية ينعكس فوراً على التضخم، وكلفة النقل الداخلي، وفاتورة الدعم الحكومي، وقيمة الروبية، ما يجعل استقرار أسعار الطاقة جزءاً لا يتجزأ من مفهوم"الأمن القومي الاقتصادي"في العقل الاستراتيجي الهندي(Reuters,2025;Reuters,2025).
في هذا السياق، بدا النفط الروسي المخفض السعر بعد 2022 فرصة اقتصادية يصعب على صانع القرار في نيودلهي تجاهلها.فمع فقدانها السوق الأوروبية تحت وطأة العقوبات، عرضت موسكو خصومات كبيرة على خام الأورال، وصلت وفق تقديرات صحفية إلى مستويات قرب 35 دولاراً للبرميل في بعض الفترات، أي أقل بكثير من أسعار برنت، وهو ما مكّن الهند من امتصاص جزء كبير من صدمة ارتفاع الأسعار عقب اندلاع الحرب، وحماية المستهلكين المحليين من قفزات أكبر في أسعار الوقود(Forbes,2025;DGCI&S,2025;European Commission,2022).وأظهرت بيانات رسمية للهند أن حصة روسيا من واردات النفط قفزت من نحو 2%فقط في 2020 إلى ما يقارب 22%في السنة المالية 2022–2023، ثم إلى حوالى 36%في 2023–2024، واستقرت حول 35%في 2024–2025، مع تمركز الواردات بشكل متزايد من خمسة موردين رئيسيين—روسيا، العراق، السعودية، الإمارات، الولايات المتحدة، والكويت—الذين باتوا يغطون نحو 86%من واردات الهند(DGCI&S,2025;Reuters,2025;OPEC,2025).هذه القفزة لم تكن قراراً أيديولوجياً بقدر ما هي استجابة لاعتبارات مالية وتجارية؛ فالمصافي الهندية أعادت توجيه مشترياتها نحو الخام الأرخص القابل للمزج وإعادة التصدير، فيما استفادت الحكومة من هوامش أفضل للسيطرة على التضخم.
لكن فهم الموقف الهندي لا يكتمل دون استحضار طموح نيودلهي في لعب دور"قوة مستقلة"داخل نظام دولي يتجه نحو تعددية الأقطاب.فمنذ نهاية الحرب الباردة، تبنت الهند فلسفة"الاستقلال الاستراتيجي"باعتبارها دولة لا تريد أن تكون امتداداً تلقائياً لأي محور، بل طرفاً قادراً على التموقع في تقاطعات متعددة:شراكة عميقة مع الولايات المتحدة في مجالات التكنولوجيا والدفاع والاقتصاد، وعضوية في تجمعات كـ"كواد"في المحيطين الهندي والهادئ، وفي الوقت نفسه استمرار العلاقات الدفاعية والتقنية مع روسيا، والانخراط في أطر مثل بريكس ومنظمة شانغهاي.هذا"التعدد في الارتباطات"يجعل قرار الانحياز الكامل إلى معسكر العقوبات ضد موسكو مكلفاً، لأنه يهدد ركيزتين في آن واحد:أمن الطاقة، وتنوع مصادر التسليح.فعلى الرغم من تراجع حصة روسيا في واردات السلاح الهندية خلال السنوات الأخيرة، فإنها ما تزال المورد الأكبر، إذ تشير تقديرات إلى أن حصتها انخفضت من نحو ثلثي واردات السلاح الهندية في 2013–2017 إلى ما يقارب 45%في 2018–2022، مع استمرار اعتماد الهند على منظومات روسية رئيسية مثل مقاتلات"سوخوي"، وصواريخ"إس-400"، ومشروع صاروخ"براهموس"المشترك(CSIS,2025;Chatham House,2024;Reuters,2025).هذه البنية الدفاعية تجعل قطع العلاقات مع موسكو مخاطرة مباشرة بجهوزية الجيش الهندي، وهو ما يفسر استمرار مباحثات التعاون الصناعي الدفاعي حتى 2025(Reuters,2025).
من هنا تبدو قراءة الهند للضغط الغربي مختلفة:فهو ليس خلافاً حول سلعة، بل حول موقعها في النظام الدولي.فانتقادات أوكرانيا وبعض الدول الغربية لواردات الهند من النفط الروسي، إلى جانب تهديدات متكررة بالعقوبات الثانوية أو الرسوم الجمركية العقابية على الدول التي تشتري نفطاً من روسيا أو فنزويلا، يُنظر إليها في نيودلهي على أنها محاولة لتقليص هامش مناورتها.ولذلك جاء الرد السياسي الهندي واضحاً:أوروبا نفسها استمرت لفترات طويلة في شراء كميات أكبر من روسيا، والهند ستواصل شراء النفط من أرخص مورد غير خاضع للعقوبات المباشرة(Reuters,2023;DGCI&S,2025).وهكذا لا تبدو الهند"متمردة"، بل دولة تمارس براغماتية ترى أن وظيفتها الأولى هي حماية رفاه ملايين المواطنين، حتى لو تطلب ذلك توتراً مع بعض الحلفاء.
المحور الثاني:النفط كسلاح سياسي عالمي–كيف تستخدمه الدول الكبرى لتغيير مواقف الهند؟
في المحور الثاني، يظهر النفط كسلاح سياسي تستخدمه القوى الكبرى لتعديل سلوك الهند.فمن جهة، اعتمد الغرب"سلاح العقوبات والقيود السعرية":وضع سقف سعري عند 60 دولاراً للبرميل وتقييد خدمات الشحن والتمويل والتأمين الغربية بالالتزام به(European Commission,2022;Forbes,2025;DGCI&S,2025).كما توسعت القيود لاحقاً لتشمل شبكات ناقلات"الأسطول الخفي"والشركات الوسيطة، مع تهديدات بالعقوبات الثانوية ضد الدول والشركات التي تتعامل مع النفط الروسي خارج الأطر المسموح بها(CSIS,2025;Reuters,2025).الهدف لم يكن وقف تدفق النفط إلى الهند، بل تقليص هوامش الخصم وجعل بدائل الشرق الأوسط أو الولايات المتحدة أكثر جاذبية.ومع تصاعد الضغط الأميركي في 2024–2025، بما في ذلك الحديث عن رسوم جمركية إضافية على الدول التي تشتري نفطاً من روسيا أو فنزويلا، تحاول واشنطن دفع نيودلهي لتقليص انكشافها على الخام الروسي(Reuters,2025;Reuters,2025).
في المقابل، تستخدم روسيا"سلاح الخصم والتسهيلات"للحفاظ على السوق الهندية.فإلى جانب التخفيضات السعرية الكبيرة، طورت موسكو منظومة لوجستية موازية تعتمد على ناقلات غير غربية وشبكات تمويل بديلة، لتجاوز قيود الخدمات الغربية، حتى إن أكثر من ثلثي النفط الروسي المتجه إلى الهند في 2024 مر عبر مثل هذه الناقلات.كما قدمت روسيا تسهيلات في شروط الدفع بالروبل أو الروبية أو الدرهم عبر مصارف وسيطة، في محاولة لتجاوز العقوبات المالية، رغم تحفظ المصارف الهندية الكبرى(DGCI&S,2025;Reuters,2025).
أما"سلاح الخليج"، فيتجلى في التحكم بالمعروض النفطي العالمي وأسعاره عبر قرارات"أوبك+"بخفض أو زيادة الإنتاج.فمنذ 2022 نفذت أوبك+سلسلة تخفيضات كبيرة، تم تمديدها لاحقاً إلى 2025.بالنسبة للهند، التي يأتي جزء كبير من وارداتها من الشرق الأوسط، يعني ذلك أن قراراً من الرياض أو أبوظبي يمكن أن يرفع فاتورة الواردات مليارات الدولارات في عام واحد.وقد حذر وزير النفط الهندي من أن تفاقم التوترات في الشرق الأوسط قد يضر بتوفر الطاقة رغم وجود بدائل في سوق يغمرها المعروض(Reuters,2025;Reuters,2025).
ولا يمكن إغفال الدور غير المباشر للصين؛ فهي أكبر مشترٍ للنفط الروسي، ما يجعل منافستها للهند على الشحنات عاملاً مؤثراً في الأسعار والخصومات.كما يدفع الصراع الأميركي–الصيني الولايات المتحدة إلى اعتبار الهند شريكاً محورياً، ما يمنح نيودلهي مساحة للتأكيد على حقها في سياسة طاقة مستقلة(IEA,2024;OPEC,2025).وبالتوازي مع"تسليح النفط"، تستخدم القوى الكبرى أدوات ضغط غير نفطية:تهديدات تجارية، تردد في نقل التكنولوجيا الدفاعية المتقدمة، وربط الاستثمارات بدرجة تقارب الهند من المواقف الغربية(CSIS,2025;Reuters,2025).إلا أن الهند تستفيد من تعدد الشركاء، فهي تستورد من روسيا والشرق الأوسط والولايات المتحدة، وتصدر منتجات مكررة لأوروبا، مما يقلل هشاشتها أمام أي مصدر ضغط.
المحور الثالث:من المستفيد ومن الخاسر؟ كلفة التحدي الهندي وتأثيره على ميزان القوى العالمي
في المحور الثالث، يبدو السؤال عن الرابح والخاسر من تحدي الهند للضغط الغربي أعقد من مجرد قياس تدفقات مالية.فمن زاوية المكاسب، تحصل الهند على فوائد واضحة:النفط الأرخص يقلل التضخم ويحمي الميزانية، ويعزز زخم النمو الاقتصادي.كما تتيح هوامش التكرير المرتفعة تصدير نحو 65 مليون طن سنوياً من المنتجات المكررة، ما يعزز موقع الهند كفاعل في سلسلة القيمة النفطية.وفي الوقت نفسه، يرسخ هذا المسار مكانة الهند كقوة مستقلة في الجنوب العالمي، تجمع بين براغماتية قصيرة المدى في الوقود الأحفوري ورؤية طويلة للتحول الأخضر، مع هدف الوصول إلى 500 غيغاواط من القدرة غير الأحفورية بحلول 2030(Ministry of Power,2025;IEA,2024;Reuters,2025).
لكن هذا المسار له كلفة:فبعض المصافي الهندية، مثل"ريلاينس"، خفضت مشترياتها من الخام الروسي خشية التعرض للعقوبات الثانوية، فيما واصلت شركات أخرى الاستيراد بكثافة.كما قد يبطئ الاعتماد على النفط التحول الطاقوي ويزيد صعوبة تحقيق هدف الحياد الكربوني بحلول 2070(IEA,2024;Reuters,2025).أما روسيا فهي مستفيد رئيسي من استمرار المشتريات الهندية، وإن كانت الخصومات الكبيرة تقلل عائداتها، بينما يجد الغرب نفسه أمام حدود واضحة لفعالية العقوبات في عالم تتنوع فيه مسارات التجارة(European Commission,2022;Forbes,2025;Reuters,2025).
في الخاتمة، يمكن القول إن استخدام النفط كسلاح سياسي في مرحلة ما بعد الحرب الأوكرانية لم يعد مجرد مسألة أسعار أو تدفقات، بل أصبح أداة لإعادة رسم خريطة التحالفات وموقع الدول في النظام الدولي.اختيار الهند الاستمرار في شراء النفط الروسي، مع تنويع مورديها وتعميق شراكاتها مع الغرب والخليج والصين، جعل منها نموذجاً لنهج جديد في الجنوب العالمي يقوم على الاستقلال الاستراتيجي والبراغماتية الطاقوية.وعلى المدى الطويل، يبقى السؤال:إلى أي مدى سيظل النفط أداة فعالة للضغط السياسي في ظل التوسع السريع للطاقة المتجددة؟ وهل ستنتقل“حرب الموارد”من النفط إلى المعادن الحرجة والبطاريات والهيدروجين الأخضر؟

التعليقات