الخوف من الفشل: هل هو عائق أم محرّك؟

الخوف من الفشل ليس شعورًا بسيطًا نختبره في لحظات الضعف؛ إنه قوة خفية تعيد تشكيل قراراتنا وطريقة رؤيتنا لأنفسنا.

الخوف من الفشل: هل هو عائق أم محرّك؟

الخوف من الفشل ليس شعورا جانبيا عابرا، بل الية نفسية–اجتماعية تتكوّن عند نقطة التقاء ثلاث قوى:تقييم الاخرين لنا، وتقديرنا لذواتنا، وكلفة الخطا في الواقع(وقت، مال، سمعة، فرص).لذلك يبدو السؤال"هل هو عائق ام محرّك؟"مضللا اذا قُدّم كاختيار ثنائي؛ فالخوف من الفشل يمكن ان يعمل كمكابح او كوقود بحسب السياق وطريقة تفسير الفرد للفشل:هل يراه معلومة قابلة للتعلم، ام حكما نهائيا على الهوية.تقارير الرفاه المدرسي في PISA 2022 تلتقط جزءا من هذه المفارقة:في اقتصادات عالية الاداء مثل سنغافورة وماكاو(الصين)وتايبيه الصينية، عبّر اكثر من 70%من الطلبة عن قلق مرتفع من"الفشل المتصور"والقلق من نظرة الاخرين لهم، رغم التفوق الاكاديمي العام(OECD,2023).

اذا سألنا:كيف يصنع الفشل طريقة تفكيرنا اكثر مما يصنعها النجاح؟ فجزء من الاجابة ان النجاح غالبا يؤكد ما نؤمنه سلفا(انا قادر)، بينما الفشل يفتح فجوة معرفية:لماذا لم ينجح الامر؟ هذه الفجوة تجبر العقل على اعادة بناء تفسيراته، وتعديل استراتيجياته، واحيانا اعادة تعريف اهدافه.دراسة منشورة في Frontiers in Psychology(2025)تصف هذا المسار بوصفه"صناعة معنى":حين يواجه المراهق نجاحا او فشلا، يقارن الحدث بمعتقداته عن ذاته(مثل:انا طالب كفؤ).اذا ظهر تناقض(فشل رغم الجهد)، يبدأ الفرد اما بامتصاص الخبرة داخل تفسير مؤقت(اسباب ظرفية)او بتعديل معتقداته واهدافه(تغيير تصوره عن نفسه او مساره).هذا يعني ان الفشل لا يجرح الاداء فقط؛ بل يضغط مباشرة على حدود الهوية:من انا حين لا انجح؟ ومن هنا تنبع قوته في تشكيل التفكير والسلوك، لان اعادة تفسير الفشل هي في جوهرها اعادة تفاوض مع الذات(Gao,Wang,Lu,Chen,&Morrin,2024).

الارقام الحديثة تشير الى ان الخوف من الفشل ظاهرة واسعة لا تقتصر على"الاشخاص القلقين"كما يتخيل البعض، بل تمتد الى بيئات ريادة الاعمال والتعليم.تقرير GEM العالمي 2024/2025 يرصد اتجاها مقلقا:في 48 من اصل 51 اقتصادا مشاركا، يوجد على الاقل ثلث الاشخاص الذين يرون فرصا جيدة لكنهم يمتنعون عن بدء مشروع بسبب الخوف من الفشل، كما ان 27 من اصل 40 اقتصادا زادت فيها هذه النسبة مقارنة بعام 2023(Global Entrepreneurship Monitor,2025).وعلى المستوى الفردي، الخوف هنا ليس فكرة عامة؛ بل"حاجز سلوكي"يمنع التحرك رغم وجود ادراك للفرصة.وهذا يفسر لماذا قد يبدو الفشل في وعينا اكثر"تشكِيلا"من النجاح:لانه يحضر كاحتمال تهديدي قبل الفعل، لا كتقييم بعده فقط، فيعيد توجيه قراراتنا من البداية:نتجنب، نؤجل، نخفض سقف الطموح، او نختار اهدافا امنة لا تفضحنا.

حين يتحوّل الخوف من الفشل الى شلل كامل عن المحاولة، نحن لا نتحدث عن كسل، بل عن دائرة تعزيز نفسي:الخوف يرفع التوتر، والعقل يبحث عن تخفيف فوري للتوتر، فيختار التجنب او التأجيل، فيشعر الفرد براحة قصيرة، فتتعزز عادة التأجيل كاداة"تنظيم انفعالي"سريعة، ثم يعود الخوف اقوى لان المهارة لم تُختبر والثقة لم تُبن.دراسة(Duru,Balkis,&Duru,2024)توضح هذه السلسلة ببيانات كمية لدى طلبة جامعة:الخوف من الفشل ارتبط بصعوبات تنظيم الانفعال، وصعوبات تنظيم الانفعال بدورها تنبأت بالتسويف، والتسويف خفّض الرضا الاكاديمي.كما افادت بان الخوف من الفشل فسّر 47%من تباين صعوبات تنظيم الانفعال، وان الخوف وصعوبات التنظيم معا فسّرا 25%من تباين التسويف.هذا يقرّب لنا معنى"الشلل":ليس توقفا مفاجئا، بل تكيّف دفاعي يتعلمه الدماغ لخفض القلق الان، لكنه يراكم ثمنا اكبر لاحقا(اداء اضعف، شعور بالذنب، رضى اقل، وخوف اكبر من التقييم).

اما سؤال:هل المجتمعات العربية تعاقب الفشل ام تتسامح معه؟ فالتعميم هنا خطر، لكن يمكن الاستناد الى مؤشرات من ريادة الاعمال والفرص الاقتصادية لفهم اتجاهات اجتماعية.تقرير GEM الاردن 2023/2024(الصادر بدعم GIZ)يظهر ان 54.3%من الاردنيين صرّحوا بان الخوف من الفشل قد يمنعهم من بدء مشروع، وحتى بين من يرون فرصا جيدة، قال 52.1%انهم لن يبدؤوا بسبب الخوف من الفشل.(Deutsche Gesellschaft für Internationale Zusammenarbeit[GIZ],2024)وفي تقرير GEM العالمي 2024/2025 تبرز امثلة من المنطقة ايضا، مثل الاشارة الى ان اكثر من نصف من يرون فرصا جيدة في السعودية قد يمتنعون عن اطلاق مشروع خوفا من الفشل(Global Entrepreneurship Monitor,2025).قراءة هذه الارقام كـ"عقاب ثقافي"فقط تبسيط مخل؛ فالبيئة المؤسسية والاقتصادية تلعب دورا حاسما:صعوبة الحصول على تمويل، محدودية شبكات الامان، تعقيد الاجراءات، وارتفاع كلفة الخسارة على الاسرة والسمعة.حين تكون كلفة الفشل مرتفعة والفرصة الثانية نادرة، يصبح المجتمع اقل تسامحا عمليا حتى لو كان خطابيا يشجع التجربة.وفي المقابل، حين تتوسع حاضنات الاعمال، وتتحسن قوانين الافلاس، وتتسع فرص العمل، يصبح"التسامح مع الفشل"اسهل، لانه لا يهدد البقاء الاقتصادي.

بهذا المعنى يمكن فهم الخوف من الفشل كاشارة مزدوجة:احيانا هو محرّك ذكي يرفع الاستعداد والانتباه ويمنع التهور، خصوصا عندما يتحول الى تخطيط ومراجعة للمخاطر بدل التراجع النهائي.ادبيات ريادة الاعمال بين طلبة الجامعة تصف"الخوف الريادي من الفشل"كحاجز نفسي يرتبط بعوامل سياقية مثل تاثير الوالدين والتعليم والهوية الاجتماعية للطالب، وتلفت الى ان النتائج ليست واحدة:قد يقود الخوف الى انسحاب، وقد يقود الى طلب دعم ومهارات اضافية اذا كانت الثقافة التعليمية تدعم التعلم من الخطا(Gao et al.,2024).هنا يظهر دور الهوية مجددا:اذا كان تقدير الذات مشروطا بالانجاز فقط، يصبح الفشل تهديدا وجوديا فيُنتج شللا؛ اما اذا كانت الهوية اوسع(قِيَم، مهارات، معنى، علاقات)، يمكن للفشل ان يُمتص كخبرة ضمن مسار طويل.نموذج"صناعة المعنى"في دراسة Liu et al.(2025)يساعد على تفسير هذا:طريقة تفسير النجاح او الفشل(هل هو ظرفي ام جوهري؟)وما اذا كان الفرد يملك وضوحا في مفهومه عن ذاته، يحددان ان كانت الخبرة ستتحول الى نمو ام الى انكسار.

خلاصة القول:الخوف من الفشل يصبح عائقا عندما يلتصق بالهوية(انا فاشل)وعندما تكون كلفة الفشل اجتماعيا واقتصاديا ومؤسسيا مرتفعة، فيتحول الى تجنب مزمن يغذي التسويف ويقلل الرضا ويعيد انتاج الخوف.وهو يصبح محرّكا عندما يُعاد تعريف الفشل كبيانات للتعلم، وعندما يوفر السياق"هامش خطا"يسمح بالتجريب(في المدرسة، في الاسرة، في سوق العمل، وفي سياسات ريادة الاعمال).الارقام من PISA وGEM تقول بوضوح:حتى المجتمعات المتفوقة ليست محصنة من خوف الفشل، وان الخوف يمكن ان يرتفع عالميا حتى مع توفر الفرص.الفرق الحقيقي لا يكمن في وجود الخوف او غيابه، بل في ما يفعله بنا:هل يدفعنا للتحضير والمحاولة، ام يعلّمنا الهروب قبل البداية؟

 

الوسائط والمرفقات

الفيديوهات (1)
التحميلات
الخوف من الفشل_ هل هو عائق أم محرّك؟.pdf
132.5 KB