التربية مع الشاشات: من يربي فعليا؟

عندما تبدأ الشاشة قبل الحوار، تنتقل التربية بهدوء من الأسرة إلى الخوارزمية، ويتشكل وعي الطفل دون قصد أو رقابة.

التربية مع الشاشات: من يربي فعليا؟

اولا:المقدمة

صارت الشاشات جزءا بنيويا من طفولة اليوم، لا كاداة ترفيه عابرة بل كبيئة معيشة يومية.تشير الدراسات الى ان 40%من الاطفال يملكون جهازا لوحيا بحلول سن السنتين، وان قرابة طفل من كل اربعة يملك هاتفا شخصيا بحلول سن الثامنة، بينما يبقى متوسط زمن الشاشة للاعمار 0–8 قرابة 2.5 ساعة يوميا(Common Sense Media,2025).هذا الانتشار الكاسح يعني ان الطفل لا يشاهد فقط، بل يتعلم حضور العالم عبر وسيط رقمي يرافقه اثناء الوجبات والانتظار والرحلات، ويزاحم انشطة مركزية لبناء النمو مثل القراءة واللعب والحوار.في التقرير نفسه يظهر ايضا تراجع عادة القراءة اليومية لدى الاعمار 5–8 من 64%الى 52%منذ 2017، بالتوازي مع ثبات نسبي لزمن الشاشة، ما يوحي بان المشكلة ليست زيادة الوقت وحدها بل تحولات في الاولوية والروتين(Common Sense Media,2025).ومع ان توصيات الصحة العامة للطفولة المبكرة تشدد على تقليل السلوك الخامل امام الشاشة، فان الواقع يشير الى ان الشاشة صارت احيانا حل تهدئة او جليسة مؤقتة تحت ضغط العمل وضيق الوقت(World Health Organization,2019).

من هنا تطرح الورقة اشكاليتها المركزية:من يربي الطفل في العصر الرقمي؟ فالتربية لم تعد محصورة في الاسرة والمدرسة، لان المحتوى لم يعد يمر كاختيار بسيط افتح/اغلق، بل يمر عبر الخوارزمية كفاعل غير مرئي يعيد ترتيب ما يراه الطفل لحظة بلحظة.الخوارزمية هنا هي نظام توصية يلتقط اشارات التفاعل(مدة المشاهدة، التكرار، النقر، التوقف)ثم يبني منها مسارا مقترحا يزيد احتمالية الاستمرار، حتى يصبح ما يظهر لاحقا جزءا من عملية تنشئة مستمرة لا يدركها الراشد دائما(Radesky et al.,2024).بناء على ذلك تسال الورقة:من يحدد ما يتعرض له الطفل؟ كيف يؤثر ذلك على نموه المعرفي والنفسي، خصوصا اللغة والخيال والتركيز؟ وما القيم التي تنتقل دون وعي عبر القدوات الرقمية والمحتوى الرائج؟ 

ثانيا:التحول التربوي من الاسرة الى الخوارزمية

تعمل الشاشات اليوم كفاعل تربوي غير معلن لا يخضع للمساءلة بالمعنى الذي نخضع به المدرسة او الاسرة او حتى المحتوى التلفزيوني التقليدي.فبينما كان الاهل سابقا يتحكمون في“بوابة”ما يدخل الى البيت من محتوى، باتت المنصات الحديثة قائمة على تدفق لا ينتهي، وعلى توصية شخصية متغيرة لحظة بلحظة.في هذا السياق، لا تعود التربية مجرد“اختيار برنامج”او“منع قناة”، بل تصبح مواجهة مع نظام توصية مبني على اقتصاد الانتباه:ما يثير البقاء اطول وما يدفع الى تمرير المزيد هو ما يحصل على الاولوية. 

ضمن هذا التحول، تعمل الخوارزميات على توجيه ما يراه الطفل دون وعي الاسرة عبر ثلاث آليات متداخلة:اولا،“الترتيب”الذي يجعل بعض الموضوعات اكثر حضورا، حتى لو لم يبحث عنها الطفل مباشرة.ثانيا،“التكرار”الذي يخلق التعلم بالتعرض المستمر، بحيث تتحول صور وسلوكيات ومفردات الى مألوف يومي.ثالثا،“المكافأة”عبر الاشعارات والاعجابات والانتقال السلس، وهو ما يصنع نمطا شرطيا بسيطا:انتبه اكثر لتحصل على متعة اكثر.هنا يظهر الفرق بين“الاستخدام”و“التنشئة”الرقمية:الاستخدام يعني اداة ضمن جدول وهدف، اما التنشئة الرقمية فتعني ان المنصة صارت بيئة تربية موازية، تصنع عادات الانتباه وتضبط معيار القيمة والقبول. 

ويتغير مفهوم السلطة التربوية تبعا لذلك:من الامر والتوجيه الى الجذب والمكافأة الرقمية.فالطفل لا“يعصى”الاهل فقط؛ بل يجد بديلا شديد الاغراء، يقدم له متعة فورية وحضوراً دائما، ويعيد تعريف“الملل”بوصفه مشكلة يجب التخلص منها فورا.ومع الوقت تصبح الخوارزمية طرفا يحدد الايقاع اليومي للطفل:يسرق من النوم عبر التمرير الليلي، ويعيد تشكيل وقت اللعب بتحويله الى مشاهدة، ويضغط على الانتباه بتقطيعه الى وحدات قصيرة. في المقابل، يتراجع دور الرقابة المباشرة امام ثقة زائفة بالمنصات:بعض الاهل يفترضون ان“محتوى الاطفال”آمن تلقائيا، او ان وجود منصة كبيرة يعني وجود حراسة فعالة، بينما الواقع ان ما يسمى“محتوى للاطفال”قد يظل موجها بخوارزمية تعظم مدة البقاء، لا جودة التربية. 

تواجه الاسرة اليوم ضغطا واقعيا:دوام عمل، وازدحام يومي، ومسؤوليات متعددة، تجعل“تفويض الشاشة”حلا عمليا سريعا، خاصة في البيوت التي تفتقر الى بدائل مجانية وآمنة للعب والتعلم.هنا تظهر الاسرة بين التفويض الاضطراري والعجز التربوي:ليس لان الاهل لا يريدون التربية، بل لان البيئة الرقمية صارت تفرض شروطها، وتنافس الاسرة على انتباه الطفل بلغة المتعة الفورية.

وعليه، يصبح السؤال الختامي لهذا المحور:متى تصبح الخوارزمية مربيا بديلا؟ الجواب التحليلي ليس“حين يشاهد الطفل كثيرا”فقط، بل حين تفقد الاسرة قدرتها على وضع سياق ومعنى لما يراه الطفل، وحين يصبح تدفق المحتوى هو الذي يشكل عادات اليوم، ويعيد تعريف ما هو طبيعي ومقبول ومثير للاهتمام.عندها لا تعود الشاشة اداة في يد التربية، بل تصير التربية نفسها جزءا من نظام توصية، يكتب للطفل“سيرة يومية”من المقاطع والمعايير والانفعالات.

ثالثا:اعادة تشكيل الطفل من الداخل:اللغة، الخيال، والتركيز

واحدة من اهم القضايا هنا هي اللغة:فالطفولة المبكرة تتشكل عبر التفاعل الكلامي الحي، حيث يتعلم الطفل المفردات والسياق والنبرة والتبادل.دراسات حديثة اعتمدت قياسا طوليا لعناصر حديث الوالدين والطفل(عدد كلمات البالغين، وتعبيرات الطفل، والتبادل الحواري)وجدت ارتباطا سلبيا بين زيادة وقت الشاشة وبين مؤشرات الحديث المتبادل في عمر 12 الى 36 شهرا؛ وبصياغة واضحة:كلما زاد وقت الشاشة، تراجعت فرص الكلام المتبادل الذي يبني اللغة والارتباط في آن واحد(Brushe et al.,2024).هذه ليست مسألة مفردات فقط، بل مسألة بيئة لغوية:فالطفل الذي يقضي وقتا اطول امام محتوى سريع قد يسمع كثيرا، لكنه لا يشارك بالقدر نفسه، ولا يتدرب على بناء جملة او تفاوض معنى او فهم سياق اجتماعي مباشر.ومن هنا يظهر التحول من التعبير المركب الى الاشارات والاختصارات والردود السريعة، ليس فقط عند المراهقين، بل كمناخ عام يضغط نحو السرعة والايجاز حتى قبل اكتمال الادوات اللغوية.

اما الخيال، فهو ساحة اخرى تتأثر.الخيال التفاعلي الحر يتغذى من الفراغ ومن اللعب الرمزي:صندوق يصبح سفينة، وملعقة تصبح ميكروفونا، وقصة قصيرة تتحول الى عالم كامل.لكن حين تصبح الشاشة المورد الاساسي للدهشة، يتحول الخيال الى خيال معلب:صور جاهزة، وحبكات سريعة، ومؤثرات تقود الانفعال، فتتراجع قدرة الطفل على صناعة عالمه بنفسه.ومع الوقت يتراجع اللعب الرمزي لصالح المشاهدة المستمرة، ويصبح الملل–الذي كان وقودا للابتكار–حالة غير محتملة.هذا التحول ينعكس ايضا على العلاقة مع التعلم:فالتعلم بالمشاهدة يختلف عن التعلم بالتجربة والخطأ.الطفل الذي يتعلم عبر اللعب الفعلي يختبر مقاومة المادة وحدود الزمن وتتابع السبب والنتيجة، بينما الطفل الذي يتعلم عبر مقطع سريع قد يحصل على نتيجة بلا مسار، وعلى حل بلا محاولات، وعلى متعة بلا صبر.

ثم نصل الى التركيز، وهو قلب السؤال المعاصر.منصات المحتوى القصير، بسبب التتابع السريع، لا تدرب الطفل على الانتباه العميق بقدر ما تدربه على الاستجابة الفورية:انتقال سريع، مكافاة سريعة، موضوع جديد قبل ان يكتمل الفهم.ادبيات بحثية حديثة تربط الاستخدام المكثف لوسائط الفيديو القصير بمؤشرات اكبر لمشكلات الانتباه، وتعتبر النتائج ادلة اولية على ارتباط يستحق الانتباه العلمي، خصوصا حين يقترن الاستخدام بالنمط الادماني او بالتعرض المطول(Chiencharoenthanakij et al.,2025).كما ان دراسات في الطفولة المبكرة ربطت زيادة وقت الشاشة بمستويات اضعف في اداء مقاييس نمائية معيارية، بما يعزز فكرة ان القضية لا تتعلق بالمحتوى فقط، بل باثر استبدال التفاعل الحي بوقت الشاشة على مسارات النمو(Yamamoto et al.,2023).وفي المقابل، لا يعني ذلك ان كل شاشة ضرر تلقائي؛ لكنه يعني ان وقت الشاشة حين يصبح بديلا عن التفاعل واللعب والنوم، يتحول الى عامل ضاغط على تطور الانتباه والتنظيم الذاتي.

وتتداخل اللغة والخيال والتركيز في نقطة واحدة:اعادة تشكيل علاقة الطفل بالمعرفة.فالمعرفة التي كانت تتطلب زمنا(قراءة، سؤال، محاولة)تصير معرفة مجزاة:معلومات قصيرة، صور مكتفية بذاتها، تشبع بصري دون تعمق.ويتحول معيار القيمة من الفهم الى الاثارة ومن الاجابة الى الانتشار.ومع هذا السياق يصبح السؤال الختامي للمحور:اي عقل نكوّن عبر الشاشة؟ عقل يعتاد السرعة ويضيق بالصبر؟ ام عقل نستطيع حمايته عبر ادارة واعية تجعل الشاشة وسيلة ضمن سياق، لا سياقا بديلا عن الحياة؟

الاجابة التحليلية هنا تتمثل في ان العقل الذي يتشكل ليس نتيجة شاشة مجردة، بل نتيجة نظام استخدام:حين تكون الشاشة في قلب اليوم بلا حدود واضحة، وحين يصبح المحتوى القصير هو الغذاء المعرفي الاساسي، وحين يغيب الحوار المصاحب، عندها تتغير بنية الانتباه واللغة والخيال تدريجيا.اما حين تكون الشاشات جزءا من خطة اسرية واعية، وتحت اشراف وتفاعل، وبموازاة لعب وحركة ونوم كاف، فالتقنية قد تتحول من قوة تفكيك الى اداة تعلم.لكن هذا الانتقال يحتاج شرطا اساسيا:ان تعود الاسرة الى موقع صناعة المعنى، لا موقع الرقابة الزمنية فقط.

رابعا:القيم ونماذج القدوة:التربية الصامتة للشاشات

القيم لا تنتقل فقط عبر موعظة او درس اخلاقي، بل تنتقل عبر ما يتكرر وما يكافأ وما يصبح“طبيعيا”في عين الطفل.وهنا تكمن خطورة التربية مع الشاشات:انها تربي بصمت عبر القدوة الرقمية.فبينما كانت القدوة تاريخيا موزعة بين اهل ومعلمين وبيئة محلية، صارت القدوة اليوم في كثير من الاحيان“مؤثرا”لا يعرف الطفل عنه الا ما يعرضه الفيديو:جسد مصقول، حياة منتقاة، نجاح سريع، وربح ظاهر.في هذا السياق، تتحول القيم السائدة في المحتوى الرائج الى محركات تربوية:الشهرة بوصفها معيار القيمة، الاستعراض بوصفه لغة القبول، الربح بوصفه دليل النجاح، والتفوق الشكلي بوصفه اختصار الحياة.وتغيب في المقابل سياقات اخلاقية مهمة:معنى الجهد المتدرج، قيمة الخطأ والتعلم، فكرة الخصوصية، واحترام الحدود.

هذا كله يتضخم لان البيئة نفسها قائمة على مكافأة التفاعل، لا على مكافأة العمق.فالمحتوى الذي يثير غضبا او ضحكا او صدمة ينتشر اكثر، ويصبح“مدرسة”غير رسمية للانفعال.وتدل تحذيرات صحية حديثة على اننا امام بيئة لم تكتمل بعد ادوات ضمان سلامتها لليافعين، وان مخاطرها ليست هامشية، بل تستدعي اجراءات لتقليل الضرر، وهو ما ينعكس على البعد القيمي:حين تكون المنصة مصممة لتعظيم التفاعل، فهي ستعطي الاولوية لما يشد العاطفة حتى لو كان سطحيا او مضللا(U.S.Surgeon General,2023).كما تبرز هنا مسألة المقارنة المبكرة:الطفل او اليافع يقيس ذاته بالاعجاب والتفاعل، وتتكون لديه علاقة مشروطة بذاته:انا“جيد”حين اتلقى تفاعلا، وانا“اقل قيمة”حين يغيب.ومع الوقت تصبح الثقة بالنفس رهينة مزاج جماهيري متقلب، ويصبح القبول الاجتماعي رقما.

وتظهر الفجوة بين قيم البيت وقيم الشاشة بوصفها ازمة تربية لا ازمة تقنية.البيت قد يعلم قيمة التواضع، بينما الشاشة تكافئ الاستعراض.البيت قد يعلم الصبر، بينما الشاشة تكافئ السرعة.البيت قد يقدم نماذج بشرية بضعفها وتعبها، بينما الشاشة تقدم نماذج“مفبركة”بلا سياق.السؤال التحليلي هنا:كيف يتربى الضمير في غياب الحوار؟ حين لا يرافق الاهل ما يشاهده الطفل بنقاش يضعه في سياق، وحين لا توجد لغة مشتركة بين جيلين حول ما هو“حقيقي”وما هو“مسرحي”، تصبح التربية القيمية مفرغة تدريجيا، ويتحول الطفل الى متلق لقواعد غير معلنة:افعل ما يجلب التفاعل، واظهر ما يثير الانتباه، وتجنب ما يبطئ الانتشار.هذا نمط تربية صامتة، لكنه فعال.

الخاتمة:نحو استعادة الدور التربوي الواعي

تصل الورقة الى خلاصة مفادها ان السؤال“من يربي فعليا؟”لم يعد سؤالا بلاغيا؛ ففي كثير من البيئات، تشارك الخوارزمية الاسرة والمدرسة في تشكيل الطفل عبر ضبط الانتباه، وتحديد ما يتكرر، وصناعة القدوة.غير ان المشكلة ليست في الشاشة بوصفها اداة، بل في تفويض التربية لها دون سياق، ودون مرافقة حوارية، ودون توازن مع نوم ولعب وتفاعل حي.المطلوب هو وعي تربوي رقمي لا يقوم على المنع المجرد، بل على الشراكة:خطة اسرية واضحة، ومرافقة للطفل في محتواه، وتعزيز بدائل واقعية للمتعة والمعنى، واستعادة دور الاسرة كمرجعية قيمية لا مجرد مراقب زمني.وفي المستوى العام، تظل الحاجة قائمة لسياسات تعليمية وتوعوية تراعي ان التقنية يجب ان تخدم مصلحة الطفل قبل الاعتبارات التجارية(UNESCO,2023)، مع فتح افق بحثي جديد حول التربية في زمن الذكاء الاصطناعي والخوارزميات الاكثر تعقيدا.

 

الوسائط والمرفقات

الفيديوهات (1)
التحميلات
التربية مع الشاشات_ من يربي فعليا؟.pdf
170.4 KB