حين يضيق العمر وتتسع المسافة: سرّ ندرة الصداقة بعد النضج

كلما تقدّم العمر واتسعت المسؤوليات، تضيّق الحياة دوائرنا، فتصبح الصداقة الحقيقية نادرة… لكنها أغلى من أي وقت مضى.

حين يضيق العمر وتتسع المسافة: سرّ ندرة الصداقة بعد النضج

تُعدّ الصداقة إحدى أكثر العلاقات الإنسانية تعقيدًا وثراءً، وهي رابطة اجتماعية تتجاوز المصالح المباشرة لتشكّل جزءًا أساسيًا من هوية الفرد، دعمه النفسي، وإحساسه بالانتماء.إلا أنّ هذه العلاقة، التي غالبًا ما تبدو طبيعية ومتدفقة في سنوات المراهقة وبداية العشرينيات، تشهد تحولات عميقة بعد تجاوز سن الثلاثين؛ إذ تصبح أكثر ندرة، وأكثر محاولةً للحفاظ على علاقات قليلة لكنها عالية الجودة.ومع تغيّر إيقاع الحياة، وتزايد الالتزامات العملية والعائلية، وتحوّل أنماط التواصل، يتساءل كثيرون عن سبب تقلّص دوائر الصداقة في هذه المرحلة، وعن الطرق الواقعية لاستعادة الروابط الاجتماعية بطريقة تناسب واقع البالغين. 

إنّ التحول الأول الذي يواجهه الفرد بعد بلوغ الثلاثين يتمثل في تغيّر بنيته الحياتية بصورة جذرية؛ ففي هذه المرحلة، يتقلّص الوقت الحرّ بشكل ملحوظ نتيجة تراكم الالتزامات المهنية وتوسّع الأدوار الاجتماعية مثل الزواج، الإنجاب، والاندماج في بيئات العمل الأكثر تنافسية.وفي ظلّ هذا الإيقاع السريع، يصبح الوقت موردًا نادرًا، ما يجبر الفرد على إعادة ترتيب أولوياته، وغالبًا ما تأتي العلاقات الاجتماعية غير الضرورية في مرتبة متأخرة.كما أنّ غياب المساحات الطبيعية التي تجمع الناس بشكل يومي، مثل مقاعد الدراسة أو النشاطات الجامعية، يؤدي إلى تفكك العلاقات تدريجيًا، ليس نتيجة خلافات مباشرة، بل بسبب تباعد الحياة وتباين المسارات المهنية والعائلية.

على المستوى النفسي، يُلاحظ تغيّر نوع الاحتياج العاطفي للصداقة، إذ ينتقل الفرد من صداقة"المشاركة اليومية"التي تعتمد على التواجد الزمني والمكاني، إلى صداقة"الدعم العميق"التي ترتكز على جودة التواصل، القدرة على الفهم، والاطمئنان العاطفي.وتكشف الأبحاث في علم النفس الاجتماعي أن التقدّم في العمر يرتبط بانخفاض"الطاقة الاجتماعية"المتاحة للتفاعل المستمر مع الآخرين، وهو مفهوم يشير إلى القدرة النفسية على المبادرة، الاستماع، والتواصل النشط(English&Carstensen,2014).ومع تقلص هذه الطاقة، يصبح الفرد أكثر انتقائية في اختيار الأشخاص الذين يستحقون الوقت والجهد.كما تتصاعد التوقعات من الصداقة، إذ يبحث الفرد عن أشخاص قادرين على تقديم دعم عاطفي حقيقي، لا مجرد رفقة سطحية.هذا الارتفاع في سقف التوقعات، على الرغم من مشروعيته، يساهم في ندرة الصداقات المستدامة، لأنّ العلاقات تحتاج إلى وقت لتتطور، بينما يميل الأفراد إلى توقع نتائج سريعة في ظل ضيق وقتهم وجهدهم.

ومع كل هذه التحولات، يواجه البالغون بعد الثلاثين تحديات بنيوية تجعل من تكوين صداقات جديدة مهمة صعبة وغالبًا مرهِقة؛ فدوائر العلاقات الطبيعية التي كان الفرد يكوّنها في المراحل المبكرة من الحياة تتقلص تدريجيًا مع انتهاء الدراسة أو تغيّر بيئة العمل أو الانتقال إلى مدن جديدة.كما أنّ الفرص اليومية للّقاء العفوي تصبح أقل بكثير.وتظهر في المقابل عوائق عاطفية مثل الخوف من الرفض، أو من الاستثمار العاطفي غير المتبادل، حيث يخشى الفرد أن تكون مبادرته لتكوين علاقة جديدة غير مرحّب بها، أو أن يُنظر إليها بوصفها محاولة ثقيلة وغير مناسبة اجتماعيًا.تشير دراسات العلاقات الإنسانية إلى أنّ البالغين يميلون إلى تفسير التجارب الاجتماعية الجديدة بحذر أكبر مقارنة بفترات الشباب، بسبب خبرة سابقة في الخذلان أو العلاقات غير المتوازنة(Thomas&Azmitia,2023).وتُعدّ هذه المخاوف أحد الأسباب التي تجعل الكثيرين يشعرون بالعزلة رغم كثرة المعارف من حولهم.

كما تلعب التكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي دورًا مزدوجًا؛ فهي من جهة تمنح شعورًا زائفًا بالاتصال، ومن جهة أخرى تعمّق المقارنات التي تشعر الفرد بأنه الأقل حظًا اجتماعيًا.فمع التعرّض المستمر لصور الاحتفالات والصداقات المثالية عبر الإنترنت، يختبر المرء شعورًا متزايدًا بالوحدة، رغم أنّ الواقع غالبًا أكثر تعقيدًا مما يظهر على الشاشة.وتشير الأبحاث الحديثة إلى أن العلاقات الرقمية على السوشيال ميديا لا تُعوّض العلاقات الواقعية، لأنّها تفتقر إلى العناصر الحسية والوجدانية الضرورية لتكوين الثقة، مثل لغة الجسد، الاتصال البصري، واللحظات المشتركة الفعلية(Sherman et al.,2021).إضافة إلى ذلك، تغيّر التكنولوجيا تعريف مفهوم"الصديق"بحيث يصبح أقرب إلى متابع أو شخص يُشارك لحظات لا جوهر لها، بينما تفقد العلاقات العميقة حضورها لصالح التفاعل السطحي والسريع.

وفي بيئة العمل، التي أصبحت إحدى أبرز مساحات العلاقات بعد الثلاثين، تسود روابط قائمة غالبًا على الفائدة المهنية، وليس على الارتباط الوجداني.فالمؤسسات الحديثة هي فضاءات تنافسية بطبيعتها، مما يجعل بناء علاقات عميقة داخلها أمرًا أكثر حساسية.وتكشف الدراسات أن العلاقات المهنية كثيرًا ما تتشكل حول تبادل المعلومات أو المصلحة الوظيفية، ولا ترتقي بسهولة إلى علاقة صداقة حقيقية(Methot et al.,2020).وهذا ما يجعل العديد من البالغين يشعرون بأنهم محاطون بالمعارف، لكنهم يفتقرون بشدة إلى الصديق الحقيقي الذي يمكنهم مشاركته الهموم اليومية أو المخاوف الوجودية.

ورغم هذه الصعوبات، تطرح مرحلة ما بعد الثلاثين فرصة مختلفة لإعادة بناء دوائر اجتماعية أكثر وعيًا ونضجًا، شرط أن يتحلى الفرد باستراتيجيات مدروسة.إحدى أهم هذه الاستراتيجيات هي خلق مساحات مشتركة جديدة؛ فالصداقة لا تولد من الفراغ، بل من التواجد المتكرر في أماكن تجمع الأفراد حول اهتمام مشترك، مثل النوادي الرياضية، مجموعات القراءة، ورشات الهوايات، أو المجتمعات الصغيرة ذات الطابع الثقافي أو المهني.وتشير الأدبيات إلى أن تكرار التفاعل في مساحات ثابتة يزيد من احتمالية بناء روابط عميقة، وهو ما يُعرف بـ"تأثير الألفة"الذي يساهم في تعزيز القرب النفسي بين الأفراد(Zajonc,2001).كما يُعدّ تبنّي مفهوم"الانفتاح المقصود"خطوة جوهرية، إذ يتطلّب بناء صداقات جديدة من الفرد أن يكون أكثر استعدادًا للحديث مع الغرباء، المبادرة، وإظهار الاهتمام من دون خوف مبالغ فيه من الرفض. 

إلى جانب ذلك، تُعدّ إعادة إحياء العلاقات القديمة استراتيجية فعالة، لأنّ هذه الروابط كانت قائمة على أسس مشتركة سابقة، ما يجعل إعادة بناء الثقة أسهل مقارنة بالخوض في علاقات جديدة بالكامل.ويمكن لهذه العلاقات أن تنمو بشكل صحي إذا تمت إعادة الاتصال دون ضغط أو توقعات عالية، بل بالاعتماد على خطوات صغيرة مثل رسالة بسيطة أو لقاء قصير.كما يقدّم مفهوم"الاستثمار التدريجي"إطارًا نفسيًا مهمًا، حيث يُنصح الفرد بأن يبني العلاقة ببطء، وأن يقدم قدرًا من الاهتمام يتناسب مع المرحلة، من دون إفراط في العطاء أو توقع رد فعل فوري.يمكّن هذا النهج الطرفين من اختبار العلاقة وبناءها بصورة طبيعية.

إضافة إلى ذلك، فإنّ وضع حدود شخصية واضحة يُعدّ ضرورة، لا سيما في مرحلة النضج، كي لا تتحول الصداقة إلى عبء.توضح الدراسات أن العلاقات الناجحة في سن الرشد تتطلب توقعات واقعية لا تستند إلى مثالية الطفولة أو كثافة التواصل السابقة، بل تعتمد على الاتساق، الاحترام، والقدرة على التواجد عند الحاجة(Fehr,2018).وتلعب مهارات التعاطف، الإصغاء النشط، والمرونة دورًا محوريًا في تعزيز الروابط التي تدوم عبر الزمن، لأنّها تعبّر عن التزام عاطفي حقيقي.

وتنتهي هذه القراءة التحليلية بإعادة النظر في مفهوم الصداقة ذاته؛ فالعلاقة المثالية التي تربط شخصين على نحو يومي وتملؤها اللحظات المشتركة ليست شرطًا ولا معيارًا للصداقة في سن النضج.الصداقة بعد الثلاثين ليست علاقة ثابتة كما نتخيلها، بل علاقة مرنة تتشكل وفق إيقاع حياة البالغين وتعقيداتها.إنّ إدراك هذا التحول يساعد على التخفيف من الشعور بالذنب أو الإحباط الناتج عن تقلص الدوائر الاجتماعية، ويمنح الفرد مساحة لتقدير العلاقات القليلة ذات القيمة العالية، التي تقدم دعمًا حقيقيًا يتجاوز مجرد التواجد الظاهري.ومن خلال الوعي بالتحولات النفسية والاجتماعية، وتبنّي استراتيجيات عملية واقعية، يمكن للفرد أن يعيد بناء دوائره الاجتماعية بطريقة أكثر اتزانًا، وأكثر انسجامًا مع متطلبات حياته، وأن يطوّر شبكة علاقات تمنحه معنى وانتماء، حتى إن كانت محدودة العدد.

 

الوسائط والمرفقات

الفيديوهات (1)
التحميلات
حين يضيق العمر وتتسع المسافة_ سرّ ندرة الصداقة بعد النضج.pdf
117.8 KB