صورة البطل في الأعمال الفنية الحديثة: من نموذج الكمال إلى البطل المكسور

في القصص الجديدة، لم يعد البطل منقذًا للعالم بقدر ما هو شخص يحاول إنقاذ نفسه، وتحوّلت جروحه وضعفه إلى جزءٍ من سرده، بل إلى مصدر قوته الحقيقية.

صورة البطل في الأعمال الفنية الحديثة: من نموذج الكمال إلى البطل المكسور

في العقود الأخيرة، شهدت الأعمال الفنية سواء في السينما أو الرواية أو المسلسلات تحولًا جذريًا في صورة"البطل".فبعد أن كانت الثقافة الإنسانية عبر القرون تميل إلى رسم أبطال مثاليين يتمتعون بالشجاعة المطلقة والنقاء الأخلاقي والاستقامة التي لا تشوبها شائبة، أصبحت الجماهير اليوم تميل إلى نماذج مختلفة تمامًا:أبطال رماديون، مكسورون، مترددون، يحملون عيوبًا جوهرية، بل ويشاركون أحيانًا في أفعال لا تُعد بالمعنى التقليدي"بطولية".هذا التحول لا يعكس فقط تغيّرًا في الذائقة الفنية، بل يكشف عن تحوّل عميق في فهم الإنسان لذاته وللعالم من حوله في ظل واقع اجتماعي وسياسي واقتصادي متشظٍّ، حيث لم يعد الكمال قيمة واقعية أو حتى مطلوبة، بل أصبح الإنسان أكثر اهتمامًا بالاعتراف بضعفه وهشاشته.تشير دراسات علم النفس الاجتماعي إلى أن الجمهور يميل اليوم إلى الشخصيات القابلة للتعاطف والاعتراف بالخطأ والتناقض، لأن هذه الصفات تسمح بنوع من"المرآة الوجودية"التي يرى من خلالها المتلقي نفسه.وهكذا، لم يعد البطل“الأسطوري”قادرًا على تمثيل الإنسان المعاصر، الذي تغلب عليه حالات القلق والضياع والبحث عن الذات.

إن تفضيل الجمهور للأبطال المليئين بالعيوب يرتبط غالبًا بكون هذه الشخصيات تمثل تصالحًا مع الواقع المعقّد، حيث لم تعد المثالية مقنعة في عصر تتكشف فيه عيوب الأنظمة السياسية، وتصدعات المؤسسات الاجتماعية، وانهيار الثقة في"النماذج الخالية من العيوب".فالدراسات الحديثة في السرديات المعاصرة تشير إلى أن ظهور"البطل المكسور"(Anti-Hero)يعكس أزمة سردية وأخلاقية يعيشها العالم منذ نهاية القرن العشرين، حيث فقدت المجتمعات ثقتها باليقينيات الكبرى التي كانت تقدمها العلوم التقليدية(Harrison,2021).ولذلك، حين نشاهد شخصية مثل والتر وايت فيBreaking Badأو دون درابر فيMad Menأو جوكر في فيلمJoker، فإننا لا نشاهد فقط سردًا لشخصيات متناقضة، بل نواجه أسئلة ثقيلة حول السلطة، والعدالة، والذات، والحدود الأخلاقية.هذا النوع من الشخصيات يجعلنا نعيد التفكير بما يعنيه“أن تكون بطلًا”في عالم أصبحت فيه الخطوط الأخلاقية أقل وضوحًا وأكثر تشوّهًا، وهو ما دفع العديد من الباحثين إلى اعتبار البطل الحديث تجسيدًا لمفهوم“الإنسان المضاد”الذي يقاوم النماذج المثالية التقليدية بحثًا عن معنى شخصي جديد.

من جهة أخرى، يعكس ظهور البطل المكسور تغيّر نظرتنا إلى الأخلاق والإنسان، حيث لم يعد الحكم على الشخصيات يعتمد على ثنائية الخير والشر، بل على قدرة العمل الفني على كشف عمق التجربة الإنسانية وتعقيداتها.يشير باحثون في علم الأخلاق السردي إلى أن المشاهدين أصبحوا وأكثر ميلًا لتفضيل الشخصيات المضطربة لأنها“صادقة”أكثر من الشخصيات الكاملة، ولأنها تعكس أخلاقًا واقعية—أخلاقًا تشبه التفاوض اليومي بين الرغبات والواجبات، لا المبادئ المُعلّبة(May,2020).في هذا السياق، أصبح البطل المعاصر مساحة اختبار للسؤال الأخلاقي ذاته:هل الأخلاق ثابتة أم متغيرة؟ هل يمكن للإنسان أن يكون“جيدًا”رغم عيوبه؟ وهل السقوط الأخلاقي دليل ضعف أم نتيجة لظروف اجتماعية أعمق؟ هذا التحول يشير إلى أن الثقافة المعاصرة لم تعد تبحث عن قدوة مثالية، بل عن مرآة نفسية وفلسفية تتيح لها فهم هشاشتها الذاتية والوجودية، وهذا ما يفسر الشعبية الكبيرة التي اكتسبتها الأعمال التي تسائل معنى العدالة والقوة والمعاناة في عالم يسوده القلق الوجودي.

وتستخدم الروايات والمسلسلات الحديثة صورة البطل المكسور كأداة لطرح قضايا معقدة تتجاوز شخصية الفرد، لتصل إلى مستويات تحليل الفساد والعبث والصراع بين النظام والفوضى.فشخصية مثل آرثر فليك فيJokerتتحول إلى بوابة لفهم علاقة الفرد بالمنظومة وكيف يمكن أن يصنع القمع الاجتماعي وحشًا بدلًا من بطل.وفيGame of Thrones، تُبنى الشخصيات على مبدأ التفكك الأخلاقي التام:الخير ليس خالصًا، والشر ليس جذريًا، وكل بطل يحمل في داخله بذور سقوطه.وتشير أبحاث في الدراسات الثقافية إلى أن الأدب والسينما يستخدمان“البطل المكسور”كوسيلة لمساءلة السلطة والعدالة، حيث يصبح البطل المعاصر تجسيدًا لأزمات المجتمع أكثر من كونه حلاً لها(Walker,2023).وهكذا، تتحول الحكاية إلى مساحة نقدية تتحدى السياسات، والطبقية، وتحوّل الإنسان إلى رقم في منظومة، وتفسر أسباب العنف، وتناقش معنى الحياة في عالم يزداد عبثًا.

إن صورة البطل الحديث ليست مجرد تطور سردي، بل تحوّل ثقافي يكشف عن مرحلة يعيش فيها العالم فقدانًا عامًا للثقة، وتحوّلًا في تصور الذات الإنسانية.فالبطل القديم كان يُبنى على نموذج قوميات صاعدة تتخيل نفسها قوية ومثالية، بينما يعكس البطل المكسور اليوم عالمًا فقد يقينه، وتحوّل فيه الإنسان إلى كائن يبحث عن معنى وسط الفوضى.وبالتالي، فإن هذا النمط من الأبطال لا يعكس فقط تحولًا فنيًا، بل يمثل وثيقة اجتماعية لفهم عصر تتلاشى فيه الحدود بين البطولة والسقوط، وبين الأخلاق والواقع، وبين الذات وصورتها في مرآة العالم المعاصر.


شاهد الفيديو للمزيد.

الوسائط والمرفقات

الفيديوهات (1)
التحميلات
صورة البطل في الأعمال الفنية الحديثة_ من نموذج الكمال إلى البطل المكسور.pdf
100.8 KB