معجزة التعليم في سنغافورة: كيف جعلوا المدرسة أكثر صرامة… وأقل ضغطًا؟

تجربة سنغافورة تُثبت أن التفوق التعليمي لا يتحقق بكثرة الامتحانات، بل بتصميم ذكي يجمع بين الصرامة الأكاديمية والاهتمام بالإنسان.

معجزة التعليم في سنغافورة: كيف جعلوا المدرسة أكثر صرامة… وأقل ضغطًا؟

مقدّمة

تُعدّ سنغافورة اليوم واحدة من أكثر النماذج التعليمية إثارة للاهتمام عالميًا؛ فهي دولة صغيرة المساحة قليلة الموارد الطبيعية، لكنها تتصدّر باستمرار اختبارات التقييم الدولي وترتبط بسمعة"المعجزة التعليمية"، حيث تشير البيانات إلى أنّ نحو 41٪ من طلبة سنغافورة يصنَّفون ضمن أعلى مستويات الأداء في الرياضيات، بينما يحقّق حوالي 23–24٪ مستويات متقدمة في العلوم والقراءة، مع نسبة معتبرة من الطلبة المتفوقين في المجالات الثلاثة معًا(OECD,2023؛ IB Consulting,2025).هذه المؤشرات الكمية تكتسب أهمية إضافية حين نضعها في سياق عام شهد"هبوطًا غير مسبوق"في نتائج العديد من الأنظمة التعليمية بعد جائحة كوفيد–19، في حين حافظت سنغافورة على موقعها المتقدّم بل وعزّزته في بعض الجوانب.

غير أنّ جوهر"المعجزة"لا يكمن في الأرقام وحدها، بل في الطريقة التي أعادت بها سنغافورة تعريف العلاقة بين الصرامة والضغط داخل المدرسة.فعلى مدى عقود، ارتبط نظامها التعليمي بثقافة الامتحانات عالية المخاطر وبسباق اجتماعي محموم نحو الدرجات، لكن منذ أواخر العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين بدأنا نلحظ مسارًا إصلاحيًا يستهدف في آن واحد:الحفاظ على معايير أكاديمية عالية، وتخفيف الضغط النفسي غير المفيد، والانتقال من"الحفظ الأهوج"إلى"تعلم دقيق وعميق". 

المحور الأول:التحولات البنيوية في نظام التعليم—من الانضباط الأكاديمي إلى الكفاءة الحقيقية

نشأ نظام التعليم السنغافوري في سياق دولة تنظر إلى رأس المال البشري بوصفه المورد الاستراتيجي الأساسي، ولذلك بُني منذ البداية على انضباط أكاديمي صارم، وامتحانات وطنية حاسمة، ومسارات تعليمية مفصّلة تربط أداء الطالب بموقعه المستقبلي في سوق العمل.كان امتحان نهاية المرحلة الابتدائية(PSLE)ونظام"المسارات"(Streaming)في المرحلة الثانوية أدوات رئيسية لتصنيف الطلبة إلى مسارات"أكاديمية"أو"عادية"أو"تقنية"، مع حضور قوي لثقافة الترتيب والمقارنة بين المدارس والصفوف(National Center on Education and the Economy[NCEE],2022).هذا النموذج أنتج جيلًا من الطلبة المتفوقين في الامتحانات الدولية، لكنه في الوقت نفسه رسّخ مستويات عالية من الضغط والقلق لدى الطلبة وأسرهم، خاصة في المراحل المبكرة.

ابتداءً من عام 2018 تقريبًا، أعلنت وزارة التعليم في سنغافورة عن تحوّل استراتيجي حمل عنوان"التعلّم من أجل الحياة"(Learn for Life)، هدفه الانتقال من التركيز الضيق على النتائج الامتحانية إلى رؤية أوسع تعتبر التعليم مسارًا مستمرًا لبناء الإنسان، مع الإبقاء على الصرامة الأكاديمية.تمثّل هذا التحوّل في حزمة من السياسات البنيوية؛ من أبرزها إلغاء الامتحانات والاختبارات الموزونة في الصفين الأول والثاني الابتدائي بالكامل، وتقليص الامتحانات نصف السنوية في صفوف أخرى، بحيث لا يعود الأداء في يوم واحد المحدّد هو المحدِّد الوحيد لمسار الطالب.كما تم تقليل إظهار الدرجات التفصيلية والأرقام الدقيقة في الشهادات في الصفوف الدنيا، وذلك للتقليل من ثقافة المقارنة المبكرة بين الأطفال(World Economic Forum,2018؛ The Logical Indian,2018؛ My Modern Met,2019).

جزء محوري من هذه التحوّلات البنيوية هو الانتقال من الامتحان الواحد الحاسم إلى"التقويم المستمر"؛ إذ أصبح تقييم الطالب يعتمد على تراكم أدائه في الصف، والمشروعات، والواجبات، والاختبارات القصيرة، ونشاطه التعاوني، بدلاً من تركيز مفرط على امتحان نهائي واحد.هذه الفلسفة لا تلغي الامتحان، لكنها تعيد وضعه في سياق أوسع من الأدوات التي تقيس"الكفاءة الحقيقية"وقدرة الطالب على تطبيق المعرفة في مواقف متجددة، وهو ما تعكسه طبيعة أسئلة PISA نفسها التي تقيّم حل المشكلات الواقعية لا مجرد استرجاع المعلومات(OECD,2023؛ Schleicher,2023).

من ناحية أخرى، أعادت سنغافورة هيكلة واحد من أكثر عناصر نظامها إثارة للجدل:نظام المسارات في المرحلة الثانوية.فاعتبارًا من 2024 تم تعميم ما يُعرف بـ"التصنيف الكامل بحسب المادة"(Full Subject-Based Banding)في نحو 120 مدرسة ثانوية، مع إنهاء تقسيم الطلبة إلى مسارات"سريع"و"عادي"و"تقني"بالطريقة التقليدية، واستبداله بجهاز تصنيف يسمح للطالب أن يدرس مواد مختلفة على مستويات متباينة تبعًا لقدراته الفعلية في كل مادة، مع إمكان الانتقال بين المستويات وفق تطوّر أدائه.هذا الترتيب الجديد يخفّف الوصم الاجتماعي الذي كان يرافق المسارات الدنيا، ويحافظ في الآن ذاته على فكرة"التمييز الأكاديمي"وحاجة النظام إلى تنويع سرعات التعلّم وعمقه.

إلى جانب ذلك، عملت سنغافورة على تصميم مناهج تقلّل الحشو وتبقي على الانضباط العلمي، من خلال التركيز على"المفاهيم الكبرى"في الرياضيات والعلوم واللغات، وترتيب المحتوى بطريقة تسمح ببناء تدريجي للمهارات المعرفية العليا، مثل التحليل والتطبيق والتقويم، بدلاً من تراكم وحدات صغيرة معزولة.هذا التبسيط المنظّم لا يعني تخفيض مستوى الصعوبة، بل إعادة توزيعها على مراحل التعلّم بحيث يستثمر الزمن الدراسي في بناء"تعلم دقيق وعميق"، وهو ما يفسّر القدرة على الجمع بين معدلات أداء مرتفعة في PISA وبين جهود معلنة لتخفيف الضغط الامتحاني(OECD,2023؛ NCEE,2022).

المحور الثاني:إصلاح المناهج ورفع مكانة المعلّم—كيف تُبنى مدرسة تخرّج مبتكرين؟

على مستوى المناهج، انتقلت سنغافورة تدريجيًا من نموذج يركّز على التحضير للامتحان إلى نموذج يُعلي من شأن"نواتج التعلم الشاملة"، بحيث تشمل إلى جانب المعرفة الأكاديمية:التفكير النقدي، وحل المشكلات، والقدرة على التعاون، والإبداع، والمرونة في مواجهة التغير، مع تركيز واضح على مجالات STEM والمهارات الرقمية اللازمة لاقتصاد المستقبل.في هذا السياق، أصبح"التعلّم القائم على المشروعات"جزءًا رئيسيًا من الممارسات الصفية؛ حيث يُطلب من الطلبة العمل ضمن مجموعات على مشروعات يمتد تنفيذها لفترات زمنية، تعالج مشكلات واقعية في المدرسة أو المجتمع أو البيئة المحلّية، وتستدعي توظيف أكثر من مادة دراسية في آن واحد.هذا النوع من التعلّم يدفع الطلبة إلى ممارسة البحث، والتحليل، واتخاذ القرار، والتفاوض مع الزملاء، والتعرّض للتجربة والخطأ، بدلاً من الاكتفاء بحفظ نماذج جاهزة للأسئلة.وبدعم من سياسات"التقويم المستمر"، يتحول المشروع نفسه إلى أداة تقييم تعكس مستوى التقدّم الحقيقي للطالب، وتكشف قدرته على تطبيق ما يتعلمه في سياقات جديدة(Assessment for Learning literature؛ NCEE,2022).

أمّا على مستوى المعلّم، فقد اختارت سنغافورة أن تجعل من التعليم مهنة نخبوية؛ فلا يدخلها إلا من اجتازوا معايير انتقاء صارمة، ويتلقّى جميع المعلمين الجدد إعدادهم في"المعهد الوطني للتربية"(National Institute of Education–NIE)التابع لجامعة نانيانغ التكنولوجية، وهو الجهة الوطنية الوحيدة المسؤولة عن إعداد المعلمين، والتدريب القيادي، والبحث التربوي.تشير دراسات إلى أنّ عدد الملتحقين ببرامج إعداد المعلمين في NIE يدور حول 2000 معلم سنويًا في المتوسط، مع تقديم إعفاء من الرسوم ومنح شهرية خلال فترة الإعداد، ما يعكس رؤية الدولة للتعليم بوصفه استثمارًا لا عبئًا(Lim,2014؛ Gopinathan,2023).

هذه السياسة تجعل المعلّم في سنغافورة جزءًا من مسار مهني واضح؛ فالترقية لا تتم فقط عبر مغادرة الصف إلى الإدارة، بل هناك مسارات للتطوّر المهني كـ"المعلّم الخبير"(Master Teacher)أو"المعلّم الباحث"أو القائد التربوي داخل المدرسة، مع فرص واسعة للتطوير المستمر والدورات المتقدّمة.وتُترجم هذه المكانة في رواتب تنافسية نسبيًا ومكانة اجتماعية معتبرة، ما يعزز جاذبية المهنة ويخلق دائرة إيجابية:انتقاء أفضل الكفاءات، تدريب عالي المستوى، احتفاظ طويل الأمد بالمعلمين، وتحسين مستمر في جودة التعليم(NIE,2023؛ NCEE,2022).

جانب آخر بالغ الأهمية يتعلق بثقافة الصفّ؛ إذ تعمل السياسة الرسمية والخطاب التربوي على تشجيع"ثقافة التجربة والخطأ"داخل الصف، بحيث لا يتحوّل الخطأ إلى مصدر للوصم أو للسخرية، بل إلى فرصة للتعلّم والحوار.هذا التوجّه ضروري إذا أراد النظام أن ينتقل من"مدرسة الدرجات"إلى"مدرسة المهارات"، لأن الابتكار لا يمكن أن ينمو في مناخ يخشى فيه الطالب من الفشل أو من الانحراف عن"الإجابة النموذجية".ومن هنا تأتي أهمية دمج الأنشطة الاستقصائية، والعروض الجماعية، والمناقشات المفتوحة، والرعاية الخاصة للطلبة الذين يواجهون صعوبات، حتى لا يصبح الامتحان هو اللغة الوحيدة التي يتحدث بها النظام(Kwek,2023؛ OECD,2023).

يمكن القول إنّ التحولات في المناهج وثقافة الصفّ، مضافًا إليها رفع مكانة المعلّم، هي التي سمحت لسنغافورة بأن تحافظ على صرامة المعايير–كما تعكسها نتائج PISA–وفي الوقت نفسه تفتح المجال أمام إنتاج"مخرجات مبتكرة"قادرة على العمل في اقتصاد معرفي، بدلاً من الاكتفاء بتخريج"مستجيبين ممتازين لورقة الامتحان".

المحور الثالث:تخفيف الضغط النفسي وتحقيق توازن المدرسة–الحياة

رغم النجاح الكمي الذي حققته سنغافورة، فإنّ هناك اعترافًا رسميًا بأنّ النظام في صيغته القديمة أفرز مستويات عالية من الضغط النفسي والقلق المرتبطين بالامتحانات والمقارنة الاجتماعية.لذلك جاء جزء مهم من الإصلاحات الأخيرة ليناقش السؤال التالي:كيف نجعل المدرسة أكثر صرامة في جودة التعليم…وأقل ضغطًا على الإنسان؟

في هذا الإطار، اتخذت وزارة التعليم سلسلة إجراءات رمزية وعملية في آن واحد.من أبرزها إلغاء ترتيب الطلبة والمدارس في النتائج الرسمية، والكفّ عن إعلان"أفضل الأوائل"بطرق تشجع على سباق التفوق القاسي.الخطاب الرسمي أصبح يردد بوضوح أنّ"التعلّم ليس منافسة"، وأنّ التركيز على الدرجات وحدها يختزل قيمة الطالب في رقم واحد.كما تم، كما سبقت الإشارة، إلغاء الامتحانات في الصفين الأول والثاني الابتدائي، وتقليص الامتحانات النصفية في صفوف أخرى، في رسالة واضحة مفادها أنّ السنوات الأولى يجب أن تبني علاقة صحية مع التعلّم، لا أن تزرع الخوف من الفشل منذ الطفولة(Ministry of Education Singapore,2018؛ IfOnlySingaporeans,2018).

بالتوازي، أعادت الحكومة صياغة فلسفة النجاح الأكاديمي في خطابها العام من"النجاح في الامتحان"إلى"التعليم من أجل الحياة"؛ أي اعتبار الدرجات مؤشرًا واحدًا ضمن مجموعة أوسع تشمل المهارات الاجتماعية–العاطفية، والقيم، والقدرة على التكيّف، والمشاركة المجتمعية.وانعكس ذلك في إدماج برامج الرفاه النفسي والتعليم الخُلقي والاجتماعي(Social and Emotional Learning)ضمن المناهج، وفي تعزيز الأنشطة اللاصفّية كالرياضة والفنون والعمل التطوعي بوصفها مكوّنات أساسية في"ملف الطالب"وليس مجرد أنشطة ثانوية يمكن تجاهلها.

كما توسّعت المدارس في تقديم خدمات الدعم النفسي والإرشاد، من خلال أخصائيين اجتماعيين ومستشارين تربويين، وبرامج وقائية تهدف إلى بناء المرونة النفسية والقدرة على التعامل مع الضغط والقلق.وترافق ذلك مع حملات توعية للأهالي تشجعهم على تجنّب دفع أبنائهم إلى سباق لا ينتهي من الدروس الخصوصية والتوقعات غير الواقعية، وتدعوهم إلى تبنّي نظرة أكثر شمولية لتقدير نجاح أبنائهم، بحيث لا تقاس القيمة الذاتية للطفل أو المراهق بدرجاته وحدها(Kwek,2023؛ OECD,2023).

مع ذلك، تشير تقارير صحفية وشهادات ميدانية إلى أنّ الضغط لم يختفِ تمامًا من حياة الطلبة السنغافوريين؛ فالتنافس على المقاعد في المدارس والجامعات المرموقة ما يزال شديدًا، والثقافة الاجتماعية لا تزال تمنح قيمة كبيرة للإنجاز الأكاديمي.لكن الفارق الجوهري هو أنّ الدولة لم تعد تغذّي هذا الضغط عبر سياسات التقويم والترتيب، بل تحاول إعادة توجيه الثقافة نحو فهم أوسع وأكثر إنسانية للنجاح.وهنا يظهر جوهر الوصفة السنغافورية:مدرسة أكثر صرامة في معايير"جودة التعلّم"و"ناتج المهارة"، وأقل انشغالًا بترتيب الناس وفق سلّم ضيق من الدرجات والامتحانات.

خاتمة

تكشف تجربة سنغافورة التعليمية عن أنّ الجمع بين الصرامة والرحمة داخل المدرسة ليس تناقضًا مستحيلًا، بل خيار سياسي–تربوي واعٍ.فمن خلال إعادة هندسة النظام باتجاه"التقويم المستمر"بدل الامتحان الواحد، وتصفية نظام المسارات لصالح تصنيف مرن بحسب المادة، وتصميم مناهج تركّز على المفاهيم العميقة لا الحشو، ورفع مكانة المعلّم ليصبح محورًا لمصنع المهارات لا مجرد منفّذ لكتاب مدرسي، ثم إعادة تعريف النجاح الأكاديمي بوصفه مسارًا للحياة لا سباقًا للامتحان؛ استطاعت سنغافورة أن تنتقل من نموذج"الحفظ الأهوج"إلى"التعلّم الدقيق والعميق"دون أن تتراجع عن موقعها المتقدّم في المؤشرات الدولية.الأرقام التي حققها طلبتها في PISA 2022، في سياق عالمي يتسم بالتراجع، تؤكد أن هذا المسار يمكن أن يجمع بين الأداء العالي والاهتمام بالإنسان في آن واحد(OECD,2023؛ Schleicher,2023).

مع ذلك، فإنّ نقل هذه"المعجزة"إلى سياقات أخرى ليس عملية نسخ آلي للسياسات، بل يتطلب توافر شروط بنيوية وثقافية، في مقدمتها وجود دولة تنظر إلى التعليم باعتباره مشروعًا وطنيًا طويل الأمد، وقدرة على ضبط العلاقة بين المدرسة والسوق والبيت، واستعداد مجتمعي لإعادة تعريف معنى النجاح.إنّ درس سنغافورة ليس في تفاصيل نظام التقويم أو عدد الامتحانات فحسب، بل في الرؤية الشاملة التي ترى في المدرسة فضاء لصناعة مواطن قادر على التعلّم مدى الحياة، في عالم يتغير بسرعة أكبر من أن تحصيها أوراق الامتحان.

 

الوسائط والمرفقات

الفيديوهات (1)
التحميلات
معجزة التعليم في سنغافورة_ كيف جعلوا المدرسة أكثر صرامة… وأقل ضغطًا؟.pdf
186.7 KB