في زمن تتسارع فيه إيقاعات الحياة إلى حدّ يلتهم اللحظات دون أن نشعر، أصبح الكثيرون يعيشون أيامهم كصفحات تُقلَب بسرعة لا تسمح بتذكر ما كُتب عليها.تشير الدراسة إلى أن ثقافة“الإنجاز الآن”تحولت إلى معيار اجتماعي جديد؛ فالبطء يُنظر إليه اليوم كتقاعس، بينما يتفاخر الناس بانشغالهم الدائم.وقد انعكس هذا التحوّل في الأرقام:ففي الولايات المتحدة ارتفعت نسبة من يشعرون بأنهم"دائمًا مستعجلون"من 24%عام 1965 إلى 35%في التسعينيات، فيما يقوم 52%من الناس بالمهام المتعددة بشكل منتظم، في محاولة لاستثمار كل دقيقة بوصفها وحدة إنتاج يجب استغلالها بالكامل.
هذا السباق المستمر لا يمرّ دون ثمن.فقد أثبتت بيانات حديثة أن متوسط فترة تركيز الإنسان على الشاشات انخفض من 150 ثانية في عام 2004 إلى أقل من 50 ثانية اليوم، بينما تشير تقارير علمية إلى أن الشخص لا يمكث على مهمة واحدة أمام الشاشة أكثر من 47 ثانية قبل الانتقال إلى مهمة أخرى.ومع انحسار القدرة على التركيز، تضاءلت أيضًا مساحة القراءة العميقة؛ إذ تراجعت نسبة من يقرؤون للمتعة يوميًا بأكثر من 40%خلال عقدين فقط.هذه الأرقام تكشف أن العقل المعاصر يعيش تحت ضغط منبهات لا تتوقف، وأنه لم يعد يجد وقتًا كافيًا للتهدئة، أو لاستيعاب ما يمر به، أو حتى لتشكيل ذكريات طويلة المدى بعيدًا عن التشتت المستمر.
ولا تقتصر آثار هذا الإيقاع المتسارع على وظائف العقل فحسب، بل تمسّ جوهر التجربة الإنسانية ذاتها.فالورقة تستعرض تجربة طريفة وفي الوقت ذاته صادمة:عندما طُلب من مشاركين الجلوس لمدة 15 دقيقة دون أي نشاط، فضل 67%من الرجال و25%من النساء تعريض أنفسهم لصدمات كهربائية خفيفة بدل الجلوس مع أفكارهم في صمت.هذا الهروب من التأمل ليس مجرد سلوك عابر؛ إنه مؤشر على فقدان الإنسان القدرة على مواجهة ذاته، وعلى أن الضجيج الرقمي بات ملاذًا نتجنّب عبره مواجهة الأسئلة التي تمنح حياتنا معنى.
ومع ظهور المحتوى السريع كالمقاطع القصيرة على منصات TikTok وYouTube وInstagram، تعمّقت الأزمة.فهذه المنصات، بتصميماتها القائمة على التمرير اللانهائي ومكافآت الدوبامين السريعة، تعيد برمجة انتباه المستخدم ليبحث باستمرار عن متعة لحظية جديدة.لقد أثبتت بحوث عصبية أن الاستخدام المتكرر لمنصات المحتوى السريع يغير مسارات الدوبامين في الدماغ بطريقة تشبه الإدمان، وأن الطلاب الذين يستهلكون هذا النوع من الفيديوهات لعدة ساعات يوميًا يظهرون قدرة أقل على التركيز، وأداء أكاديميًا أدنى، وصعوبة في متابعة محاضرات طويلة أو قراءة نصوص معمقة.وهكذا تتحول الحياة إلى سلسلة من الومضات المنفصلة، كل واحدة ممتعة لكنها غير مترابطة، مما يجعل الإنسان عاجزًا عن بناء“قصة”داخلية متماسكة لحياته.
ومع تلاشي المعنى، يلجأ الكثيرون إلى استهلاك المزيد من المتعة لتعويض الفراغ الداخلي.فقد أظهرت إحصاءات أن 60%من الناس يشترون أشياء بدافع الخوف من تفويت فرصة ما(FOMO)، بينما اعترف 73%من جيل الشباب بإنفاق مال ليس لديهم أساسًا لتمويل تجارب اجتماعية وترفيهية لنفس السبب.غير أن هذه الدائرة—التي تبدأ بالحماس وتنتهي بملل سريع—لا تُنتج معنى حقيقيًا؛ لأن المتعة، بحسب ظاهرة“التكيّف اللذّي”، تفقد بريقها بسرعة، ليعود الشخص إلى نقطة البداية باحثًا عن جرعة جديدة.
ورغم كل ذلك، توضح الورقة أن استعادة المعنى ليست حلمًا بعيدًا.فالخروج من هذه الدوامة يبدأ بإبطاء الإيقاع عمدًا، والعودة إلى لحظات التأمل اليومية، وإعادة تشكيل علاقتنا بالوقت وبالتقنية.وقد بينت إحدى التجارب أن تقليص استخدام وسائل التواصل الاجتماعي إلى 30 دقيقة فقط في اليوم أدى خلال بضعة أسابيع إلى انخفاض واضح في مشاعر الاكتئاب والوحدة.كما أن اختيار أنشطة تنمو ببطء—كالقراءة العميقة، الكتابة، العلاقات الإنسانية الحقيقية، وتعلم مهارة جديدة—يسهم في بناء شعور بالامتلاء الداخلي يعيد للإنسان توازنه وبوصلته.
وتخلص الورقة إلى أن المشكلة ليست في سرعة العصر، بل في أننا نسمح لها بأن تجتاح حياتنا بلا وعي.فالمعنى لا يولد من الإشباع اللحظي، ولا من تراكم التجارب السريعة، بل من القدرة على التوقف، والبناء، وربط الماضي بالحاضر بالمستقبل.إننا نستطيع اللحاق بالعصر دون أن نفقد أنفسنا، شرط ألا نترك الضجيج يخفي عنا ما هو أثمن من الوقت نفسه:من نكون، ولماذا نعيش.
للاطّلاع على الفيديو وقراءة الورقة التحليلية الكاملة، يُرجى التمرير إلى الأسفل.

التعليقات