تغيّر سؤال«هل نعيش حياتنا أم نعرضها؟»من تأمل فلسفي إلى مشكلة اجتماعية ملموسة في زمن أصبحت فيه الكاميرا ملاصقة للجسد عبر الهاتف، ومنصات التواصل جزءًا من النَّفَس اليومي تقريبًا.تشير أحدث الإحصاءات إلى أنّ عدد مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي وصل في منتصف 2025 إلى نحو 5.41 مليار مستخدم، أي ما يقارب 65–68%من سكّان العالم، بمتوسط استخدام يومي يقارب ساعتين و21 دقيقة لكل شخص، مع تزايد مستمر في عدد المنصات التي يتنقّل بينها المستخدم الواحد.في هذا السياق الرقمي الكثيف، لم تعد«اللحظة»تُقاس فقط بما تحتويه من إحساس ومعنى، بل بما تمتلكه من قابلية للتوثيق والمشاركة، وبما تحققه من تفاعل ورموز الإعجاب.لقد انتقلنا من مرحلة تُلتقط فيها الصور للحفاظ على الذاكرة الشخصية والعائلية، إلى مرحلة تُصنع فيها اللحظات أصلًا كي تُصوَّر وتُنشر، بحيث يصبح العيش نفسه مشروطًا بإمكانية أن يتحوّل إلى«محتوى»يمكن استهلاكه على شاشة صغيرة.
هذا التحوّل الثقافي من عيش التجربة إلى توثيقها يرتبط بعدة دوائر متشابكة:الاقتصاد الرقمي، وثقافة العرض، وطريقة عمل الدماغ في بيئة الإشعارات المستمرة.نظريات«اقتصاد الانتباه»ترى أن المنصات الرقمية تبني أرباحها على خطف انتباه المستخدم أطول وقت ممكن، فتُصمَّم الواجهات والخوارزميات بحيث تجعلنا نلتقط الصورة، وننشرها، ونعود مرارًا لمراقبة تفاعل الآخرين معها.كل إعجاب أو تعليق يعمل كـ«مكافأة صغيرة»للدماغ عبر نظام الدوبامين المسؤول عن التعلّم بالمتعة والتعزيز؛ أطباء النفس الذين يدرسون الإدمان الرقمي يشيرون إلى أنّ كل إشعار أو«لايك»يطلق دفعة صغيرة من الدوبامين، ومع التكرار يتشكّل نمط سلوكي قهري يجعلنا نعود إلى التطبيقات دون وعي كامل، بحثًا عن جرعة جديدة من الإشباع الاجتماعي.في هذا الإطار، تصبح الصورة ليست مجرد وسيلة لتذكر اللحظة، بل آلية للحصول على الاعتراف والقبول والانتماء، فيتحوّل تقييم التجربة من سؤال:«كيف شعرت أنا؟»إلى سؤال:«كيف ستبدو للآخرين؟ وكم سيحصل هذا المنشور من تفاعل؟».
مع ذلك، لا يمكن اختزال التصوير في كونه عدوًا للحظة؛ فالأبحاث النفسية حول التقاط الصور تقدّم صورة أكثر تعقيدًا.دراسات ميدانية وتجريبية متعدّدة أظهرت أن التصوير يمكن أن يزيد من متعة التجربة حين يكون أداة لزيادة الانتباه والانخراط؛ أي عندما يوجّه الشخص عدسته ليرى التفاصيل التي ربما كان سيتجاهلها لولا رغبته في التقاط صورة، فيزداد تركيزه على ما يعيش، ويرتفع مستوى استمتاعه واستحضاره للحظة لاحقًا.لكن هذه الفائدة مشروطة بأمرين:ألا تكون التجربة أصلًا«مفرطة التحفيز»بحيث يصبح التصوير عبئًا إضافيًا يشتّت الانتباه بدل أن يعزّزه، وألا يتحوّل فعل التصوير إلى ممارسة موجهة بالكامل نحو نظرة الآخرين والحكم المستقبلي على الصورة.عندما يتحرك الشخص من موقع«أوثّق ما أرى لأستحضر اللحظة لاحقًا»إلى موقع«أصنع لحظة تناسب ذوق الجمهور»، تصبح الكاميرا وسيطًا يقطع الصلة الطبيعية بين الذات وتجربتها، وتتحوّل اللحظة إلى مشهد مُخرج بعناية يتطلّب إعادة التكرار، وضبط الإضاءة، واختيار الزاوية، وربما إقصاء بعض الأشخاص أو الفوضى الواقعية من أجل«كادر أنظف»، فتُضحّى بجزء من عفوية الحياة لصالح جمال الصورة.
من هنا ينبثق المحور الثاني، المتعلق بالآثار النفسية والاجتماعية لصناعة الحياة على شكل محتوى.فحين تتحول الذات إلى«منتج قابل للعرض»، وتصبح السيرة اليومية عبارة عن سلسلة مقاطع مصقولة تُرفع إلى المنصات، يتشكّل نمط من القلق المزمن على الصورة الخارجية:كيف أبدو؟ كيف تُقرأ حياتي من الخارج؟ هل أبدو ناجحًا وسعيدًا بما يكفي؟ أبحاث عديدة حول وسائل التواصل والصحة النفسية تظهر ارتباطًا متكررًا–وإن كان معقدًا–بين كثافة استخدام المنصات وارتفاع أعراض الاكتئاب والقلق لدى المراهقين والشباب، مع الإشارة إلى أن الخطر الأكبر لا يكمن فقط في«المدة الزمنية»بل في نمط الاستخدام ذاته:المقارنات الاجتماعية المستمرة، ومتابعة حياة الآخرين«المفلترة»، والبحث الدائم عن التقييم الخارجي.دراسات طولية حديثة تابعت آلاف الأطفال واليافعين في الولايات المتحدة وجدت أن زيادة الوقت الذي يقضيه الأفراد على وسائل التواصل في سن مبكرة مرتبطة بارتفاع لاحق في الأعراض الاكتئابية، حتى بعد ضبط متغيرات الدخل والأسرة والعوامل الشخصية الأخرى.هذا لا يعني أن كل من يستخدم المنصات سيصاب بالاكتئاب، لكن يشير إلى أن نمط الحياة القائم على العرض المستمر يرفع هشاشة الصحة النفسية لدى الفئات الأكثر حساسية.
جزء كبير من هذا العبء يرتبط بما يسمّيه علماء النفس«المقارنات الاجتماعية الصاعدة»، أي النظر المستمر إلى من نراهم«أفضل منا»في الجمال أو الثراء أو النجاح.منصات التواصل تُضخّم هذا النمط؛ فالمستخدم يتعرّض لسيل من اللقطات المنتقاة بعناية من حياة الآخرين، فيرى عطلات مثالية، وانجازات مهنية متتابعة، وأجسادًا محسّنة بعدسات وفلاتر، فيقارن ذلك بحياته اليومية المليئة بالفوضى والتعب والتناقضات.أحدث الأبحاث على الشباب تبيّن أن كثرة التعرض لمحتوى الآخرين المثالي، مع الميل للتفسيرات السلبية للذات، يرتبط بانخفاض تقدير الذات وارتفاع الأعراض الاكتئابية، وأن جزءًا من تأثير وسائل التواصل على الصحة النفسية يُفسَّر تحديدًا عبر هذا المسار:المقارنة الصاعدة ثم الإحساس بعدم الكفاية.عندما ترتبط قيمة الإنسان في وعيه بعدد المتابعين وجودة الصور وعدد مرات الظهور، تصبح الذات مهددة دومًا بفقدان قيمتها إن تراجع التفاعل، أو ظهرت«نسخ أفضل»منها في السوق الواسع للصور والقصص.
إلى جانب ذلك، يضرب هذا النمط جذور الأصالة في الهوية؛ فالفرد الذي يعتاد أن يفكر في نفسه باعتباره«علامة شخصية»يحتاج طوال الوقت إلى إدارة الانطباع:ما الذي أنشره؟ ما الذي أخفيه؟ أي جانب من شخصيتي يستحق الظهور؟ فتغدو هناك مسافة متزايدة بين«أنا كما أعيش»و«أنا كما أقدّم نفسي»، ومع تراكم هذه المسافة، تصبح العودة إلى الذات الأصيلة أكثر صعوبة.كثيرون يصفون شعورًا غريبًا بعد تصوير لحظة جميلة:يعودون ليراجعوا الفيديو أو الصورة فورًا، كأنهم يحتاجون إلى رؤية اللحظة من الخارج ليصدقوا أنهم عاشوها؛ وكأن التجربة لا تكتمل إلا حين تُستعاد عبر الشاشة.هذا الميل يقلل من«الحضور الذهني»؛ إذ تُظهر أبحاث حول اليقظة الذهنية واستخدام الهواتف الذكية أن تعدد المهام الذهني(الانتباه للّحظة وللكاميرا ولتخيّل الجمهور في آن واحد)يضعف القدرة على الاستغراق في التجربة، ويزيد من شعور التشتت والانفصال.هنا يصبح السؤال ليس فقط عن صحة النفس، بل عن نوعية الوعي الذي نمارس به حياتنا:هل نحن حاضرون في الحدث، أم مشغولون بتمثيله والتفكير في كيفية استقباله لاحقًا؟
هذا المنطق لا يقتصر على الفرد، بل يعيد تشكيل العلاقات الاجتماعية ذاتها.العائلة التي لا تجتمع إلا عندما يكون هناك«عيد ميلاد يصلح للإنستغرام»تشرع لاشعوريًا في تنظيم لحظاتها وفق منطق الكاميرا:ترتيب الطاولة بما يناسب الصورة أكثر مما يناسب الجلوس، اختيار ملابس الأطفال بما ينسجم مع«الفييد»، وربما خلق لحظات احتفالية سطحية فقط لتوفير محتوى.الأصدقاء الذين يلتقون لالتقاط«لقطة حلوة»ثم يغرق كل منهم في هاتفه بعد ثوانٍ يجسدون علاقة مقلوبة:بدلاً من أن يكون التصوير تابعًا للتجربة المشتركة، تصبح التجربة كلها ذريعة لصورة.ومع أن الشبكات الرقمية تعطي انطباعًا بالاتصال الدائم، فإن عدداً من الدراسات يشير إلى أن الاستخدام الكثيف لوسائل التواصل قد يرتبط بارتفاع مشاعر الوحدة لدى بعض الفئات، خاصة عندما يحل التفاعل عبر الشاشة محلّ التواجد الحميم وجهاً لوجه، أو عندما يشعر الفرد أنه«يحضر حياة الآخرين»أكثر مما يحضر حياته هو.يضاف إلى ذلك العبء المتزايد على التركيز والانتباه؛ فالدراسات الحديثة التي تابعت آلاف الأطفال والمراهقين تشير إلى علاقة بين الاستخدام المتزايد لوسائل التواصل وبين تراجع القدرة على التركيز وارتفاع أعراض تشتت الانتباه عبر الزمن، وهو ما يعكس كيف يمكن لثقافة التمرير السريع والانتقال المتواصل بين المنصات أن تعيد تشكيل عادات الانتباه في المدى البعيد.
أمام هذا المشهد المعقّد، لا يكفي أن نطلب من الناس«أن يتركوا هواتفهم»أو أن يتوقفوا عن التصوير؛ فهذا الطلب يتجاهل حقيقة أن المنصات مصممة بنيويًا لتشدّنا، وأن التصوير في ذاته يحمل وظائف إيجابية مرتبطة بالذاكرة والحنين والانتماء.السؤال الأعمق هو:كيف يمكن استعادة التوازن بين العيش والتوثيق، بحيث نعيد تعريف معنى«اللحظة»بما ينسجم مع كرامة التجربة الإنسانية، دون إنكار دور الصورة في حياتنا الحديثة؟ نقطة الانطلاق هنا هي فهم دوافعنا الحقيقية للتصوير:هل نصوّر كي نُثبت للآخرين أننا سعداء، أم لكي نحتفظ بأثر شخصي لما نعيش؟ حين يُصارح الفرد نفسه بهذه الدوافع، يمكنه أن يضع لنفسه قواعد بسيطة لكنها فعالة:مثل أن يعيش الحدث أولاً ثم يوثّقه، أن يؤجل نشر الصور إلى ما بعد نهاية اللقاء، أو أن يحدّد في المناسبات العائلية«فترات بلا كاميرا»تكون مخصصة للضحك والحوار دون عدسة تراقب الجميع.
تقدم أدبيات«الحضور الذهني»في سياق التكنولوجيا مقاربة واعدة لهذا التوازن؛ فهي لا تدعو إلى هجر الهواتف بل إلى استخدام واعٍ لها.أظهرت مراجعات منهجية وتحليلات تلوية حديثة أن تنمية مهارات اليقظة الذهنية–أي القدرة على ملاحظة الحاضر دون حكم، والانتباه المتعمّد لما نفعله–ترتبط بانخفاض ملموس في السلوكيات الإدمانية المتصلة بالهاتف الذكي، وتُعد أداة فعّالة في برامج«الرفاه الرقمي»الموجهة للطلاب والشباب.في ضوء ذلك، يمكن إعادة تصميم علاقتنا بالتصوير من خلال ممارسات مثل«التصوير اليقظ»:أن يلتقط الإنسان صورًا أقلّ لكن بدافع التذوّق العميق، وأن يسمح لنفسه في أحيان أخرى أن يعيش اللحظة بالكامل دون أي محاولة لتجميدها في إطار؛ أن يتعامل مع الصورة كتذكير يساعده على استرجاع المعنى، لا كوثيقة لإقناع الجمهور بأنه يعيش معنى ما.
على المستوى الاجتماعي الأوسع، لا بد من الاعتراف بأن المنصات ذاتها تملك مصلحة اقتصادية في دفعنا باتجاه العرض المستمر، وأن إعادة التوازن ليست مسؤولية الأفراد وحدهم.لذا نرى اليوم نقاشات سياسية وتنظيمية متصاعدة حول حدود ما يجب أن يُترَك لخوارزميات الشركات وما يجب أن يُنظم قانونيًا، خاصة فيما يتعلق بحماية الأطفال واليافعين.بعض الدول بدأت بالفعل في فرض قيود عمرية صارمة على استخدام المنصات، أو مناقشة صيغ لاعتبار الشركات مسؤولة عن الأثر النفسي لخدماتها على الفئات الهشّة؛ هذه السياسات–مهما اختلفنا حول تفاصيلها–تعكس إدراكًا جماعيًا بأن ترك مسألة«كيف نعيش اللحظة»لاقتصاد المنصات وحده يعني في الواقع تسليم تعريف اللحظة لمنطق الإعلانات والخوارزميات(Reuters,2024).ومع ذلك، حتى أكثر القوانين صرامة لن تعيد إلينا الحضور إذا ظلّ الفرد يقيس ذاته بعدّاد الإعجابات.
في النهاية، لا يبدو أن المنصات ستتوقف عن دفعنا إلى العرض، ولا أن الكاميرات ستغادر جيوبنا، لكن ما يمكن أن يتغيّر هو الطريقة التي نمنح بها الشرعية للّحظة ولأنفسنا.يمكن لكل واحد منا أن يعيد ترتيب سلّم القيم:أن يقيّم اللحظات بمعايير شخصية–عمق المشاعر، جودة التواصل، الأثر الداخلي–لا بمعايير المنصات، وأن يبني صورته عن نفسه بناءً على خبراته الحقيقية لا على ردود الفعل الرقمية.عندها فقط يمكن أن تصبح الصورة امتدادًا للحياة لا بديلًا عنها، وأن نستعيد القدرة على أن نعيش أكثر مما نُصوّر، وأن نسمح لبعض اللحظات أن تعيش في الذاكرة فقط، بلا عدسة، لتذكّرنا بأن الإنسان لا يُختَزل في إطار مستطيل على شاشة، مهما بدا هذا الإطار جميلًا أو لاقى تفاعلًا.

التعليقات