شهد العالم خلال العقود الثلاثة الأخيرة تحوّلاً جذريًا في خرائط القوة، إذ لم يعد النفوذ السياسي والاقتصادي محصورًا داخل حدود الدول القومية التقليدية، بل بدأت المدن الكبرى تبرز بوصفها وحدات فاعلة بذاتها، تمتلك قدرة مستقلة على إنتاج القرارات الاقتصادية وتوجيه تدفقات الاستثمار والتأثير في السياسات العالمية.هذا التحول لا يمكن فهمه فقط من خلال النمو الديموغرافي أو التوسع العمراني، بل من خلال الانتقال العميق في طبيعة الاقتصاد العالمي وانتقال مراكز الثقل من“الدولة كمحرّك رئيسي للإنتاج”إلى“المدينة بوصفها منصة كثيفة للثروة والابتكار”.وتشير تقديرات البنك الدولي إلى أنّ المدن تحتضن اليوم ما يزيد على 56%من سكان العالم، لكنها تنتج ما يقارب 80%من الناتج الإجمالي العالمي، وهو فارق يكشف بوضوح أنّ الوزن الاقتصادي للمدن يفوق وزنها السكاني بكثير، وأن المدينة صارت تُقاس بقدرتها على خلق القيمة لا بعدد سكانها(World Bank,2024).إنّ هذه القدرة الاستثنائية جعلت مدنًا مثل نيويورك، ولندن، وسنغافورة، وسيول، ودبي، تتحول إلى كيانات سياسية–اقتصادية تتجاوز في نفوذها بعض الدول النامية، وأحيانًا حتى بعض الدول المتوسطة الدخل، ما أدى إلى نشوء ما يسمى في الأدبيات المعاصرة بـ"المدينة–الدولة"(City-State)في نموذجها الجديد.
لقد أعاد الاقتصاد العالمي تشكيل ذاته بطريقة تمنح المدن موقعًا مركزيًا في النظام الرأسمالي.ففي الوقت الذي تراجعت فيه الصناعات الثقيلة عن موقعها السابق، تقدّمت قطاعات التمويل، والتقنية، والخدمات المتقدمة، والصناعات الإبداعية لتصبح المحرك الرئيسي للنمو.وهذه القطاعات بطبيعتها تحتاج إلى بيئة حضرية كثيفة تتيح التفاعلات السريعة، وتنقل المعرفة، وبناء شبكات الإنتاج.وقد أثبتت الأدبيات الاقتصادية أن التجمعات الحضرية تخلق ما يسمى بـ“اقتصاديات التكتل”(Agglomeration Economies)، وهي ميزة تجعل الشركات والعمال أكثر إنتاجية حين يكونون في مدينة كبيرة ذات بنية تحتية متقدمة، وأنّ هذه المدن تصبح قادرة على جذب المواهب والاستثمار مقارنة بالمناطق الأقل حضرية(Glaeser,2011).بناء على ذلك، لم تعد المدن مجرد“أماكن للعيش”، بل تحولت إلى“عقد اقتصادية”تتحكم في سلاسل الإمداد، وتتفاعل مباشرة مع الشركات متعددة الجنسيات، وتحدد–بشكل غير مباشر–اتجاهات السياسات النقدية والمالية عبر تأثيرها في الأسواق.
أما المراكز المالية العالمية مثل نيويورك، ولندن، وهونغ كونغ، وسنغافورة، فقد أصبحت مثالًا نموذجيًا على قدرة المدينة على تجاوز حدود الدولة في النفوذ.فبورصة نيويورك، على سبيل المثال، أكبر من اقتصاد دول كاملة في أمريكا اللاتينية وأفريقيا، وتدفقات رأس المال التي تمر عبر لندن تجعلها لاعبًا رئيسيًا في النظام المالي العالمي حتى بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.وتشير دراسات عدة إلى أنّ هذه المدن لم تعد مجرد مناطق جغرافية، بل شبكات عالمية تربط المستثمرين، والصناديق السيادية، والبنوك، وشركات التكنولوجيا، ما يجعل قرارًا اقتصاديًا يصدر في لندن قادرًا على التأثير في قيمة العملات أو أسعار السندات في أسواق بعيدة آلاف الكيلومترات(Sassen,2018).هنا يظهر بوضوح أنّ الدولة لم تعد وحدها اللاعب الأساسي؛ فالمدينة ذات البنية المالية والعلاقات الدولية تمتلك نفوذًا حقيقيًا يمكن أن يعادل نفوذ دولة متوسطة الحجم.
ولا يمكن فهم صعود المدن دون الإشارة إلى الثورة التكنولوجية التي غيرت شكل الاقتصاد العالمي.لقد خلقت التقنية الرقمية، والذكاء الاصطناعي، وسلاسل البيانات العملاقة، بيئة جديدة ترتكز على الابتكار والإبداع بوصفهما مصدر الثروة الأول.وفي هذا السياق، برزت مدن مثل سان فرانسيسكو، وبوسطن، وبرلين، وبنغالور، كمحاضن للإبداع التقني والشركات الناشئة.تشير بيانات OECD إلى أنّ 75%من الشركات الناشئة ذات القيمة العالية تتركز في أقل من 40 مدينة حول العالم، ما يعني أنّ الاقتصادات المعرفية والمستقبلية تُبنى في مدن محددة، وليس داخل الدول كلها(OECD,2023).وهذا التركز منح المدن التي تحتضن شركات التكنولوجيا نفوذًا سياسيًا كبيرًا، لأنها أصبحت تتحكم في ابتكارات تغير شكل العالم:الذكاء الاصطناعي، الطباعة ثلاثية الأبعاد، الطاقة المتجددة، والخدمات الرقمية.وهكذا لم تعد التقنية تُنتج داخل حدود الدولة، بل داخل منظومات حضرية متطورة تتجاوز الحدود الوطنية.
ومع تعاظم النفوذ الاقتصادي والتكنولوجي للمدن، بدأت تظهر ظاهرة جديدة تتمثل في الدور الدبلوماسي المباشر للمدن، وهو ما تسميه بعض الأدبيات بـ“الدبلوماسية الحضرية”(Urban Diplomacy).فقد أصبحت مدن مثل باريس، وسيول، وبرشلونة، ودبي، تمتلك شبكات علاقات مباشرة مع مدن في قارات أخرى دون المرور عبر قنوات الدولة، سواء في مجالات التجارة، أو النقل، أو الثقافة، أو تبادل الخبرات.وظهر كذلك ما يسمى بـ“شبكات المدن العالمية”(Global City Networks)التي تعمل كمساحات لتبادل السياسات بين المدن، مثل شبكة C40 المعنية بالمناخ، التي تضم أكثر من 90 مدينة مسؤولة عن ربع الاقتصاد العالمي.وتشير دراسات UN-Habitat إلى أن المدن باتت توقع مذكرات تفاهم، وتشارك في مؤتمرات دولية، وتدير مشاريع عابرة للحدود، مما يجعلها لاعبًا شبه مستقل في النظام الدولي(UN-Habitat,2022).وهذا التحول يعكس أن المدن أصبحت تمتلك إرادة سياسية تتجاوز الدور التقليدي للبلديات، وتقترب أحيانًا من دور المؤسسات الحكومية العليا.
لقد سمحت هذه التطورات للمدن بأن تصبح كيانات اقتصادية وسياسية قادرة على التخطيط الاستراتيجي بعيد المدى، مما يعزز قوتها مقارنة بالدول التي تعاني من البيروقراطية أو الانقسامات السياسية.فعلى سبيل المثال، تعتمد سنغافورة، التي هي مدينة–دولة، على نموذج إداري شديد الكفاءة جعل ناتجها المحلي للفرد من أعلى المعدلات في العالم.وعلى الرغم من خصوصية حالتها، إلا أنها تمثل مثالًا على ما يمكن أن تصبح عليه المدن الكبرى حين تحصل على استقلال إداري واسع وتمتلك رؤية تنموية واضحة.أما دبي، فقد تحولت من مدينة إقليمية صغيرة إلى مركز عالمي للتجارة والخدمات اللوجستية بفضل قدرتها على جذب الشركات ورؤوس الأموال، وتقديم بيئة أعمال تنافسية تتجاوز ما هو متاح في كثير من الدول المحيطة بها.وتوضح تقارير اقتصادية أنّ ناتج دبي وحدها يعادل أو يفوق ناتج دول كاملة في المنطقة، وهو مؤشر على قوة المدن في السياق العالمي الجديد(Dubai Economic Report,2023).
وفي المقابل، تواجه العديد من الدول تحديات يمنعها من الاستفادة الكاملة من الطاقة الاقتصادية داخل المدن، أبرزها المركزية الشديدة، وضعف التخطيط الإقليمي، وغياب الاستثمارات في البنية التحتية التي تسمح للمدن بالنمو.وتشير تحليلات البنك الدولي إلى أنّ المدن في الدول النامية غالبًا ما تعاني من“نمو غير مخطط”يؤدي إلى اختناقات مرورية، وتوسع عشوائي، وضعف في الخدمات، ما يجعلها عاجزة عن جذب الاستثمارات الكبرى أو المنافسة على الساحة العالمية(World Bank,2021).وهذا يعيد طرح السؤال حول دور الحكومات:هل تسمح للمدن بالنمو والتحول إلى قوى سياسية واقتصادية، أم تظل ممسكة بقبضة مركزية تُضعف قدرة المدن على المنافسة؟ هنا يبرز سؤال السيادة:صعود المدن قد يُنظر إليه بوصفه تهديدًا للسلطة التقليدية للدول، بينما يراه آخرون فرصة لتعزيز النمو الوطني عبر تمكين الوحدات الحضرية.
وتطرح ظاهرة"المدينة كقوة سياسية"تحديات تتعلق بالعدالة الاجتماعية.فتركز الثروة في المدن الكبرى يعني اتساع الفجوة بين المدن الغنية والمناطق الريفية أو المدن الأصغر، وهو ما يسمى في الأدبيات بـ“عدم المساواة الحضرية–الإقليمية”(Urban–Regional Inequality).ويشير تقرير الأمم المتحدة إلى أنّ ما يزيد على 1.2 مليار شخص يعيشون في مدن ولكن دون الوصول إلى البنية التحتية المناسبة، وأنّ هذا التفاوت قد يؤدي إلى انقسامات اجتماعية وسياسية قد تُضعف القدرة العامة للدولة على التنمية(UN-Habitat,2020).ومع ذلك، يرى بعض الباحثين أنّ المدن ليست سبب المشكلة، بل هي نتيجة طبيعية لتحولات الاقتصاد العالمي الذي يكافئ الابتكار، والتواصل، والتنظيم، وكلها عناصر تتوفر في المدن أكثر من المناطق الريفية.
في ضوء هذه التحولات، يبدو أنّ صعود المدن ليس ظاهرة عابرة بل إعادة تشكيل عميقة للنظام العالمي.فالمدن اليوم هي المحرك الأساسي للثروة، وهي مراكز للمعرفة والابتكار، وهي لاعب سياسي يمتلك القدرة على التحرك فوق حدود الدولة وفي داخلها في الوقت ذاته.ومع استمرار التوسع الحضري عالميًا، وتزايد تعقيد الاقتصاد الرقمي، وتقدم تقنيات الذكاء الاصطناعي، من المرجح أن تتزايد قوة المدن في العقود القادمة، وأن تعيد تشكيل معنى السيادة، وأدوار الحكومات، وطرق إنتاج الثروة.ولذلك فإنّ السؤال لم يعد:“هل ستتفوق المدن على الدول؟”بل:“كيف ستتعايش المدن والدول معًا في نظام عالمي جديد يتوزع فيه النفوذ بين وحدات متعددة المستويات؟”.

التعليقات