المقدمة
في الحياة اليومية صارت عبارة"انا مشغول"اجابة تلقائية تكاد تعمل كتحية ثانية:يسالك صديقك كيف انت؟ فتجيب:مشغول.يكررها موظف، طالب، ام، وصاحب متجر.واللافت ان النبرة لا تحمل دوما شكوى، بل شيئا من الفخر:كأن الانشغال شهادة انك"مطلوب"وان وقتك نادر.هكذا يتغير معنى الانشغال من حالة مؤقتة الى هوية اجتماعية:بدل ان تقول"انا امر بضغط"، تقول"انا شخص يعيش الضغط".ومع هذا التحول يصبح الوقت سلعة؛ كل دقيقة لها سعر رمزي، ومن لا يملك جدولا ممتلئا قد يبدو كمن لا يملك"قيمة"كافية في سوق الانتباه والعمل.لذلك يصير الفراغ يحتاج الى تبرير، وتتحول الراحة الى فعل مشروط:اريح كي اعمل اكثر، لا اريح كي اعيش.ومع انتشار العمل الهجين والمنصات، صار الانشغال ايضا اشارة انك متصل دائما وقادر على الاستجابة بسرعة، وهي قيمة جديدة في اقتصاد يقيس الانسان بما يلتقطه من فرص وما يفوته من رسائل.
تشرح ابحاث حديثة هذا التحول بوصفه انتقالا في اشارات المكانة.فبحث منشور في Journal of Consumer Research يبين ان"الانشغال ونقص وقت الفراغ"باتا يقران اجتماعيا كرمز مكانة، لان الناس تربط الانشغال بامتلاك راس مال بشري مرغوب(كفاءة وطموح)وبكون الشخص نادرا ومطلوبا(2017).وفي الاقتصاد الرقمي، لم تعد اشارة الانشغال سردا شخصيا فقط، بل بنية اتصال:بريد ومحادثات واجتماعات تمتد عبر التوقيتات وتدخل الى ما بعد الدوام، فتجعل الانشغال معيارا يوميا لتقييم الذات، لا مجرد ظرف عابر.ومع هذا التحول، تظهر ظاهرة يمكن تسميتها"التباهي بالانشغال":يصبح ضغط الجدول علامة مكانة مثلما كان امتلاك اشياء معينة علامة مكانة، ويصير قولك انك متعب طريقة لطيفة لقولك انك مهم.ولهذا تبدو الحاجة ملحة لفهم كيف تشكلت هذه القيمة الجديدة.
سؤال الورقة المركزي:لماذا صار"انا مشغول"مدحا اجتماعيا؟ والاطروحة ان ثقافة تربط القيمة الانسانية بالانتاج المستمر تعيد ترتيب معايير الهوية والنجاح، ثم تفرض ثمنا نفسيا واجتماعيا خفيا.وعليه سنعالج ثلاثة مسارات مترابطة:التحول القيمي في معنى العمل والانجاز، ثم الثمن النفسي الذي يظهر كاحتراق وقلق وذنب الراحة، ثم الثمن الاجتماعي الذي يطال العائلة والعلاقات ويحول الوقت الى معركة دائمة.
أولا:كيف تحولت قيمة الانسان من"من هو"الى"ماذا يفعل"؟
لفترة طويلة كان العمل في المخيال الاجتماعي وسيلة عيش، وممارسة اخلاقية مرتبطة بالمسؤولية والكرامة:تعمل كي تعيل، وكي تشعر بانك مساهم في الجماعة، وكي تحافظ على استقلالك.لكن مع توسع الاقتصاد الحديث وتزايد منطق المنافسة، اخذت قيمة الانسان تقاس بما يضيفه لا بما يكونه.تحولت الاسئلة اليومية من:كيف حالك؟ الى:ماذا تعمل؟ وكم تنجز؟ وصار العمل ليس فقط مصدر دخل، بل بطاقة تعريف.هذه النقلة يمكن قراءتها في اللغة العامة:"كفاءة"،"انتاجية"،"نتائج"،"سرعة"،"مؤشرات".حين تدخل هذه المفردات الى العلاقات، يصبح الانسان موضوعا للتقييم المستمر، وتصبح الذات دفتر حسابات:ماذا اضفت هذا الاسبوع؟ كم انجزت اليوم؟ وهل تقدمت مقارنة بغيري؟ هنا يتشكل انتقال خفي من"العمل كوسيلة"الى"العمل كمعنى"، ومن"الانتاج كحاجة"الى"الانتاج كهوية".
في هذا السياق يصبح الانشغال عرضا اجتماعيا واعادة تموضع في الهرم.دراسة Bellezza وPaharia وKeinan(2017)تفسر الظاهرة بوضوح:الانشغال يعمل كاشارة مكانة لان الناس تفترض ان الشخص المشغول"نادر"و"مطلوب"، كما تفترض انه يمتلك صفات راس مال بشري مرغوب مثل الطموح والجدية.اي ان الانشغال ليس مجرد وصف للوقت، بل لغة اعتراف اجتماعي:تقول"ما عندي وقت"فتعلن ضمنيا ان وقتك"غالي".ومع تراجع كثير من اشارات الطبقة التقليدية، تصبح اشارة الوقت اسهل من اشارة المال:يمكن للجميع ان"يبدو"مشغولا حتى لو كانت موارده محدودة، ويمكن للانشغال ان يعوض نقص الرموز الاخرى عبر رمز واحد حاسم:الندرة.
السوشيال ميديا رفعت هذا التحول من مستوى اللغة الى مستوى العرض اليومي.النجاح يعرض كروتين يومي، والتعب يتحول الى محتوى ملهم، والضغط يقدم كعلامة تميز:"انا دايما مضغوط"تصبح شبيهة بوسام.وفي عالم يشير فيه DataReportal الى ان المستخدم النموذجي للانترنت يقضي نحو ساعتين و21 دقيقة يوميا على منصات التواصل، تصبح المقارنة اليومية شبه حتمية، ويصبح عرض الانشغال جزءا من ادارة السمعة لا من ادارة الوقت فقط.بذلك لا يعود السؤال:هل انت متعب؟ بل:هل تبدو متعبا بما يكفي ليقتنع الاخرون انك"ناجح"؟ ومع هذا التحول، يتحول التعب من خبرة تحتاج عناية الى صورة تحتاج نشر، ويتحول الانجاز من معنى داخلي الى دليل خارجي.
لكن الاهم ان بنية العمل نفسها، لا نزعات الافراد فقط، دفعت هذا التحول.تقارير Microsoft عن"اليوم العملي اللامتناهي"تذكر ان اجتماعات ما بعد الثامنة مساء ارتفعت 16%على اساس سنوي، وان 30%من الاجتماعات باتت تمتد عبر مناطق زمنية متعددة، ما يضغط على حدود الدوام التقليدي(2025).وحين يصبح جزء من الفريق في توقيت مختلف، يتحول"المرن"الى"دائم":تتلقى رسالة في المساء لانها صباح عند غيرك، او لان الية العمل تعاقب من يتاخر في الرد.وفي الوقت نفسه، حين تمتلئ الايام برسائل واجتماعات قصيرة ومتقاربة، يصير الانشغال حالة متواصلة حتى لو غاب الانجاز العميق:انت تتحرك كثيرا، لكنك لا تتقدم بالقدر نفسه.وهكذا يتحول الانشغال الى ضجيج اداري يقدم اجتماعيا كدليل قيمة.
وعلى مستوى عالمي، تسند تقارير ساعات العمل هذا التحول الثقافي.منظمة العمل الدولية تذكر ان اكثر من ثلث العاملين عالميا يعملون بانتظام لاكثر من 48 ساعة اسبوعيا، ما يعني ان"العمل المفرط"ليس هامشا صغيرا بل ظاهرة واسعة(ILO,2023).وحتى في اوروبا، حيث تتقدم سياسات التوازن نسبيا، يشير Eurostat الى ان متوسط الاسبوع العملي في الاتحاد الاوروبي عام 2024 بلغ 36.0 ساعة، مع تفاوتات واسعة بين الدول(Eurostat,2024).هذه البيانات لا تلغي البعد الثقافي، لكنها تذكر ان الثقافة لا تعمل في فراغ:هناك نظم عمل تنتج ضغطا حقيقيا، ثم تعيد تسويقه كفضيلة شخصية.
المفارقة المركزية ان الانشغال قد يخفي ما يناقض صورته:قد يكون فوضى في ادارة الوقت، او هروبا من اسئلة داخلية، او مجرد استجابة لضغط مؤسسي.لكنه يقدم اجتماعيا كقيمة لانه يمنح اعترافا سريعا يمكن تبادله بلا الدخول في التفاصيل.لذلك يصبح السؤال الفرعي حادا:هل نعمل اكثر لاننا نحتاج ذلك، ام لاننا نحتاج ان نبدو مهمين؟ غالبا الاثنان معا:سوق يطلب المزيد، وذات تبحث عن مكانتها عبر اظهار انها"ممتلئة".وفي النهاية، حين تتحول قيمة الانسان الى"ماذا يفعل"، يصبح الخوف الاكبر هو التوقف:لان التوقف لا يهدد الدخل فقط، بل يهدد ايضا معنى الذات، ويكشف فراغا كانت الحركة المستمرة تغطيه.وحين يصبح"من انا"مرهونا بما اقدم من نتائج، تتحول الاخطاء الصغيرة الى تهديد كبير للصورة الذاتية.
ومن زاوية اوسع، ساهم انتشار الاقتصاد الحر والعمل القائم على المشاريع القصيرة في تحويل الشخص الى"محفظة اعمال"متنقلة:يجب ان يثبت نفسه باستمرار كي يبقى مرئيا في منصات التوظيف والشبكات المهنية.حينها يتحول الانشغال الى رسالة تسويقية:"انا لدي زخم".وفي اللغة اليومية، تتغير مفردات الثقة بالنفس الى مفردات ادارة الوقت:"انا مستعجل"،"ما عندي مساحة"،"مليان".ومع الوقت، لا يعود الانشغال نتيجة العمل، بل يصبح شرطا لقبوله؛ كأنك ان لم تبد مشغولا فلن تبد جديرا.بهذا المعنى، تحويل قيمة الانسان الى"ماذا يفعل"لا يغير تعريف النجاح فقط، بل يغير تعريف الانسان لنفسه.ويبقى السؤال:هل يمكننا استعادة القيمة من داخل الانسان، لا من عداد مهامه، قبل ان تتحول الحياة الى سباق؟
ثانيا:الثمن النفسي الخفي:احتراق، قلق، وذنب الراحة
حين تربط الثقافة القيمة بالانتاج، يصبح الضغط مسارا لا حادثة.لذلك من الادق فهم الاحتراق النفسي كعملية تدريجية:يبدأ بحماس ورغبة في الاثبات، ثم يتراكم ضغط المهام، ثم يتحول الى استنزاف، ثم الى فتور وفقدان معنى.تعريف منظمة الصحة العالمية للاحتراق يلتقط هذا المسار بوصفه نتيجة ضغط مزمن في مكان العمل لم تتم ادارته بنجاح، ويتحدد بثلاثة ابعاد:استنزاف الطاقة، تزايد المسافة الذهنية او السلبية تجاه العمل، وتراجع الفاعلية المهنية(WHO,2019).هذا التعريف مهم لانه يميز بين الارهاق العام والاحتراق المرتبط بسياق العمل، ويشير ضمنيا الى ان المشكلة ليست"ضعفا"فرديا بل نتيجة شروط وتنظيم وقياس مستمر.
على مستوى التحليلات الراهنة، تتزايد المؤشرات على اتساع التعب المهني.بيان Boston Consulting Group عام 2024 تحدث عن ان نصف العاملين عالميا يعانون من احتراق او صعوبات مرتبطة به، مع الاشارة الى ان شعور العاملين بالادماج والاعتراف يقلل احتمالات الاحتراق بشكل كبير(BCG,2024).وفي اتجاه متصل، تقرير Gallup سجل ان نسبة العاملين"المندمجين"عالميا في 2024 بلغت 21%، وهو رقم يلمح الى ان جزءا واسعا من قوة العمل يعيش انجازا بلا ارتباط عاطفي كاف، ما يرفع قابلية الاستنزاف.حين ينخفض الاندماج، لا يعني ذلك مجرد ملل، بل يعني ان العمل يفقد قدرته على منح معنى، فيتحول الانجاز الى التزام ثقيل لا الى تجربة تمنح رضا.
يتجسد الثمن النفسي ايضا في قلق الانتاج:شعور بان كل دقيقة يجب ان تستثمر.هنا يظهر"توتر التوقف":لا يتوتر الشخص من العمل فقط، بل يتوتر من الراحة.وحين تتسع قنوات الاتصال خارج الدوام، يتحول التوتر الى عادة.تقرير Microsoft عن"اليوم العملي اللامتناهي"يقدم مادة رقمية لهذا القلق:ارتفاع اجتماعات ما بعد الثامنة مساء، وتمدّد العمل الى نهايات الاسبوع، بحيث يقارب 20%من العاملين النشطين في العطلة فحص البريد قبل الظهر، مع عودة اكثر من 5%الى البريد مساء الاحد(Microsoft,2025).حين يصبح الاحد مساء وقتا لعودة البريد، تتغير نفسية العطلة:تتقلص المسافة الذهنية التي كانت تحمي التعافي.ومن ثم يتحول الراس الى"حالة انتظار"دائمة:ماذا فاتني؟ من ينتظر الرد؟ هل سيتاخر كل شيء اذا توقفت ساعتين؟
والاثمان لا تقف عند النفس.بيان WHO و ILO عن ساعات العمل الطويلة يذكر ان العمل 55 ساعة اسبوعيا او اكثر يرتبط بزيادة مخاطر السكتة الدماغية بنحو 35%وزيادة خطر الوفاة بمرض القلب الاسكيمي بنحو 17%مقارنة بمن يعملون 35–40 ساعة، كما يشير الى ان نحو 9%من السكان العاملين عالميا يعملون بهذا النمط من الساعات الطويلة(WHO&ILO,2021).هذه الارقام لا تقول ان كل من يعمل كثيرا سيصاب، لكنها تقول ان تحويل الانشغال الى قاعدة حياة يملك ثمنا صحيا قابلا للقياس.وفي الحياة اليومية، يمر هذا الثمن عبر نوم مضطرب، وتوتر عضلي، وتشتت انتباه، وجسد لا يلحق بالتعافي، وتصبح الاعراض الصغيرة مزمنة.
ويمكن تفكيك مسار الاحتراق الى مراحل سردية يلاحظها كثيرون في تجربتهم اليومية:حماس البداية حيث يتحول الانجاز الى مصدر اثبات ذات، ثم ضغط تراكمي حيث تصبح القائمة اطول من القدرة، ثم استنزاف حيث يعمل الشخص"بالحد الادنى"، ثم فقدان معنى حيث لا يعود الانجاز يمنح شعورا بالرضا بل شعورا بالخلاص المؤقت.المشكلة ان ثقافة الانشغال تكافئ المرحلتين الاوليين علنا، لكنها لا ترى المرحلتين الاخريين الا بعد فوات الاوان، فتفاجئ الفرد وهو ينهار بصمت.وهنا يظهر"ذنب الراحة"كاثر نفسي مباشر:النوم ليس راحة بل"اعادة شحن"للعمل، والفراغ ليس حقا بل"وقت ضائع".لذلك لا يكون القلق مجرد خوف من مهمة، بل خوف من التاخر عن الاخرين في سباق غير محدد النهاية.
وتزداد خطورة هذا المسار حين يتحول الى عبء صحي واجتماعي، لذلك تتقدم نقاشات"حق الانفصال"خارج ساعات العمل لاعادة ضبط التوفر المهني.كما تشجع مؤسسات كثيرة على اوقات صامتة واجتماعات اقل واهداف اوضح.ثم هناك بعد صامت:العمل كمسكن نفسي.حين يصعب على الفرد مواجهة قلق داخلي او توتر علاقات، يصبح الانشغال مهربا مقبولا اجتماعيا.بدل ان يقول:انا مرتبك، يقول:انا مشغول.وبدل ان يواجه فراغا، يملأ اليوم بمهام.هكذا يختلط العمل بالهوية، ويصبح"ما افعله"هو الجواب الوحيد عن"من انا".عندها، اي توقف يهدد صورة الذات:ليس لانه يقلل الانجاز فقط، بل لانه يسحب تعريف الشخص لنفسه.لذلك يعود السؤال الفرعي ليكشف الجوهر:هل نحن متعبون لان العمل كثير، ام لان الراحة ممنوعة نفسيا؟ غالبا يتشارك العاملان في صنع التعب المزمن:كثرة العمل تخلق ضغطا، وثقافة تجرم الراحة تمنع تفريغ الضغط، فيتحول التعب الى نمط حياة.
ثالثا:الثمن الاجتماعي:تآكل العائلة والعلاقات وتحول الوقت الى معركة
حين يصبح الوقت سلعة نادرة، تصبح العلاقات ايضا ساحة توزيع لهذا المورد.لذلك يختفي"الوقت المشترك"تدريجيا:العائلة تتقاسم المكان لكنها لا تتقاسم الانتباه.يظهر نمط الحضور الجسدي والغياب الذهني:الاب او الام في البيت، لكن الهاتف يعمل كنافذة عمل مفتوحة، تقطع الحديث وتجزئ العاطفة.هذه ليست مسالة اخلاق فردي فقط، بل نتيجة تمدد العمل رقميا وتوسع توقعات الاستجابة.تقرير Eurofound حول"حق الانفصال"يذكر ان نحو 45%من المشاركين شعروا ان الاتصال خارج ساعات العمل كان مضرا بتوازن الحياة والعمل وبالصحة والرفاه، وهو رقم يوضح ان الحدود بين البيت والعمل صارت اكثر هشاشة، وان"البيت"لم يعد بالضرورة مساحة انفصال نفسي.حين تتسرب الاشعارات الى غرف النوم، لا تسرق دقائق فحسب، بل تسرق مزاجا وهدوءا وقدرة على الانصات.
اثر هذه الثقافة على التربية يحدث بلا خطابات.الطفل يرى ان القيمة تقاس بالانشغال، فيتعلم ان الراحة تحتاج اذنًا ضمنيا، وان من يجلس بلا مهام"اقل"من غيره.ثم يحمل المعادلة معه الى المدرسة فالجامعة فالعمل.وفي كثير من البيوت يتشكل وعي عاطفي جديد:الحب موجود، لكن الوقت قليل، والانتباه مجزأ.ومع ازدياد العمل الهجين، يتكرر مشهد بسيط لكنه كاشف:اجتماع في المساء، او رسالة في العطلة، فتتحول لحظة البيت الى"انتظار انتهاء"لا الى مشاركة.وهنا يصبح الانشغال ليس مجرد ضغط عمل، بل بنية تنظم اليوم وتضع العائلة في خانة"الوقت المتبقي"بدل ان تكون محور الجدول.
العلاقات الاجتماعية تتغير بالطريقة نفسها.الصداقة تحتاج"تنسيق"بدل العفوية:لقاءات تدار بالتقويم، وحديث يقطع بالاشعارات.ومع تكرار المقاطعة، حتى حين يجتمع الناس، لا يجتمعون بالكامل.الهاتف يتحول من اداة تواصل الى وسيط يلتهم التواصل الحقيقي، فيسهل ان تعيش علاقة كثيرة الاشعارات قليلة الانصات.وبما ان الانشغال صار قيمة، يصبح الغياب عن العلاقات قابلا للتبرير:"انا بشتغل عشانكم"قد يكون صحيحا، لكنه قد يصير ايضا ستارا لغياب عاطفي او لعجز عن رسم الحدود.وفي المحصلة تظهر نتيجة اجتماعية اشد عمقا:عزلة جماعية داخل مجتمع مزدحم:كل شخص يعلن انه مشغول، ولا احد يملك وقتا فعليا للاخر.
وهنا تكمن المفارقة الاخيرة:ثقافة الانشغال تعدنا بنجاح، لكنها قد تسحب من النجاح شرطه الانساني:ان يكون هناك وقت للحياة.فاذا كانت القيمة تقاس بالانتاج فقط، ستصير العلاقات"تكلفة"لا"معنى".ومع الوقت تتراجع طقوس الجماعة الصغيرة:وجبة هادئة، زيارة بلا موعد، او حتى صمت مشترك.وهذه التفاصيل البسيطة هي التي تصنع شعورا بالامان والانتماء.لذلك يصبح السؤال الفرعي ضروريا:ماذا يحدث للمجتمع عندما يصبح الوقت المشترك نادرا؟ غالبا يتاكل النسيج الاجتماعي بالتدريج، ويغدو كل فرد مشغولا في سباقه، وحيدا في نتائجه فعلا.
وعندما يصبح الوقت معركة، تظهر مفارقة اضافية:حتى حين نحصل على دقائق للعلاقات، ندخلها بعقل"الانجاز".نريد ان ننهي اللقاء بسرعة، وان نرد على الهاتف بين جملة واخرى، وان نختزل الحديث في تحديثات سريعة.هذا الاسلوب يقلل من العمق العاطفي، ويجعل العلاقة تبدو وكأنها مهمة اخرى في قائمة اليوم.من هنا، لا يعود تآكل العلاقات مجرد نتيجة جانبية، بل يصبح ثمنا اجتماعيا مباشرا لثقافة الانشغال:تراجع الدعم في الازمات، ضعف الاحساس بالانتماء، وتحول المجتمع الى مجموعة افراد متوازيين لا متشاركين.
الخاتمة
تكشف المحاور الثلاثة ان الانشغال لم يعد حالة عابرة، بل معيار قيمة:جملة"انا مشغول"صارت تجمع التفاخر والدفاع والتبرير في نفس الوقت.في المحور الاول راينا كيف انتقلت اشارة المكانة من السلع الى الزمن، وكيف اظهرت ابحاث سلوكية ان الانشغال ونقص وقت الفراغ يقران اجتماعيا كرمز مكانة مرتبط بالندرة وبراس المال البشري(Bellezza,Paharia,&Keinan,2017).وفي المحور الثاني ظهر الثمن النفسي:احتراق وقلق وذنب الراحة، تدعمه تعريفات رسمية وتحليلات حديثة وارقام عن تمدد اليوم العملي بعد الدوام، وعن مخاطر ساعات العمل الطويلة على الصحة، وعن اتساع الشعور بالاحتراق عالميا.وفي المحور الثالث اتضح الثمن الاجتماعي:تراجع الوقت المشترك، وتحوّل العلاقات الى"مواعيد"، وظهور عزلة جماعية داخل مجتمع يبدو متصلا لكنه مشتت.
البديل ليس تمجيد الكسل، بل فصل الانتاج عن الكرامة، وفصل الراحة عن الذنب.هو ان نعيد تعريف القيمة الانسانية لتشمل الصحة النفسية، العلاقات، والمعنى، لا عدد المهام فقط.ويمكن ترجمة ذلك عمليا بوضع حدود اتصال واضحة، واعتبار الوقت المشترك جزءا من"النجاح"لا عائقا له.لذلك، بدل ان نسال:كم انت مشغول؟ نحتاج ايضا ان نسال:لمن اعطي وقتي، ومتى احمي نفسي وحدودي؟ وما الذي يستحق ان يبقى حقا؟ ربما يجب ان نسال:هل ما تفعله يترك لك حياة تعيشها؟

التعليقات