نهاية الجامعات؟ التعليم ما بعد الذكاء الاصطناعي

الذكاء الاصطناعي لم يُلغِ دور الجامعة، لكنه أجبرها أن تتحول من مكان لحفظ المعرفة إلى مساحة لصنع التفكير والمهارة والتمييز بين الصواب والوهم.

نهاية الجامعات؟ التعليم ما بعد الذكاء الاصطناعي

عبر قرون طويلة، كانت الجامعة تُرى بوصفها«المكان الوحيد للمعرفة المنظمة»:فضاءً يجمع الكتب والمختبرات والاساتذة والاعتماد، ويُنتج المعرفة ويُصنّفها ثم يمنحها شرعية اجتماعية عبر الشهادة.هذا التصور لم يكن رمزيا فقط، بل كان عمليا:من يريد ان يصبح طبيبا او مهندسا او محاميا، يمر غالبا عبر بوابة الجامعة التي تُدرّس وتختبر وتُجيز.لكن العقد الاخير، وبصورة اعنف بعد ظهور الذكاء الاصطناعي التوليدي، قلب المشهد:أدوات مثل ChatGPT وCopilot وClaude لم تعد مجرد«بحث اسرع»، بل صارت شرحا فوريا، وتلخيصا، ومناقشة تفاعلية، وامثلة لا تنتهي، وخطة تعلم شخصية تُصاغ في ثوان.في لحظة تاريخية كهذه يصبح السؤال الاستهلالي حادا:هل ما زالت الجامعة ضرورية في عصر يمكن فيه لمحرك ذكاء اصطناعي ان يشرح الفيزياء او القانون او الطب او البرمجة خلال ثوان، وباساليب متعددة تناسب مستوى كل طالب؟

غير ان الاشكالية الاعمق ليست«هل يموت الحرم الجامعي؟»بل:هل نحن امام نهاية فعلية لمفهوم الجامعة، ام امام اعادة تعريف جذرية لوظيفتها؟ فبينما توسّع التعليم العالي عالميا ليصل عدد الملتحقين به الى 264 مليون طالب/ة عام 2023(UNESCO,2025)ما يعني ان الجامعة ما تزال مؤسسة ضخمة مركزية في العالم المعاصر، الا ان ما تغيّر هو مركز القيمة:من امتلاك المعرفة الى القدرة على التفكير بها واستخدامها واثباتها اخلاقيا ومهنيا. 

اطروحة هذه الورقة ان الذكاء الاصطناعي لا«ينهي»التعليم الجامعي، بل يكشف هشاشة النموذج القائم على التلقين والاختبارات والشهادات بوصفها اشارات اجتماعية، ويدفع الجامعة اما الى التحول العميق او الى فقدان ضرورتها تدريجيا.

المحور الاول:كيف عملت الجامعات كنظام احتكار معرفي؟

من المفيد النظر الى الجامعة كنظام احتكار«ناعم»لا يعتمد على المنع المباشر بقدر ما يعتمد على ثلاث وظائف احتكارية متداخلة:انتاج المعرفة، ومنح الشرعية العلمية، وتنظيم الدخول الى المهن.تاريخيا، كان انتاج المعرفة يتم عبر بنى لا تتوفر خارج الجامعة بسهولة:ارشيفات، مختبرات، تمويل بحثي، ومجتمعات علمية محكومة باعراف التحكيم والنشر.بهذا المعنى، لم تكن الجامعة مجرد مكان يتلقى فيه الطالب المعرفة، بل كانت مصنعها ايضا:تُنتج الاطروحات والابحاث، وتُراكم التخصص، وتحدد ما يُعد«علما»وما يُعد خارجا عن المعايير.الوظيفة الثانية كانت«منح الشرعية»:الشهادة ليست ورقة فحسب، بل ختم اجتماعي يقول:هذا الشخص خضع لمسار تقويمي معترف به.اما الوظيفة الثالثة، فهي التنظيم المهني:كثير من المهن الحساسة تُدار بسلاسل اعتماد وترخيص وتدريب سريري او هندسي او قانوني، والجامعة كانت الحلقة الاكثر ثباتا داخل هذه السلسلة.

هذا الاحتكار بدا متماسكا حتى مع ظهور الانترنت، ثم انفجار الدورات المفتوحة(MOOCs)والتعليم الذاتي.فلو كانت المشكلة مجرد«اتاحة المحتوى»، لكان الانترنت قد فكك الجامعة منذ زمن.لكن الذي حدث هو العكس:المحتوى صار متاحا، بينما بقيت الشهادة بوصفها آلية فرز اجتماعي-اقتصادي.هنا تتضح نقطة محورية:الجامعة لم تصمد لانها تملك المعلومة، بل لانها تملك«الاعتراف»المؤسسي الذي يحوّل المعلومة الى مسار مهني.ورغم نمو بدائل التعلم، ظل سوق العمل زمنا طويلا يعامل الدرجة العلمية كاختصار ذهني عن الانضباط والقدرة والالتزام.لكن هذا المختصر بدأ يتشقق:تقارير حديثة تشير الى ان نسبة الوظائف التي تشترط درجة بكالوريوس انخفضت الى 44%بعد ان كانت 51%عام 2017(Burning Glass Institute,2024).ومع ذلك، لا يعني هذا ان الجامعة فقدت نفوذها، بل يعني ان«احتكارها»لم يعد مطلقا.

على مستوى الحجم العالمي، ما يزال التعليم العالي يتمدد:264 مليون طالب/ة في 2023 رقم يكشف ان الجامعة ليست مؤسسة هامشية قابلة للاختفاء السريع، بل بنية اجتماعية-اقتصادية كبرى(UNESCO,2025).لكن التمدد ذاته يفضح ازمة قديمة:نموذج التدريس الذي يعتمد على محاضرة جماعية، ومنهج جامد، وامتحان يقيس الذاكرة اكثر مما يقيس التحليل، ثم يعيد انتاج الهرم نفسه كل فصل.هذه الازمة لم يصنعها الذكاء الاصطناعي؛ الانترنت كشفها جزئيا، والدورات المفتوحة ضغطت عليها، لكن الذكاء الاصطناعي التوليدي فعل شيئا ادق:قدّم بديلا وظيفيا مباشرا لجزء كبير من«خدمة الشرح»التي كانت الجامعة تتفرد بها داخل القاعة.فالطالب الذي كان يحتاج موعدا مع استاذ او ساعات مكتبة ليحل عقدة مفاهيمية، يستطيع اليوم محاورة نموذج لغوي يشرح بالامثلة والرسوم اللفظية ويعيد الشرح بطرق متعددة.عندما تصبح«خدمة الشرح»سلعة متاحة للجميع، يتقلص جزء من الاحتكار المعرفي الذي كانت تمارسه الجامعة دون ان تعلن ذلك.

ومع ذلك، لماذا لم تنته الجامعة، ولماذا قد لا ينهيها الذكاء الاصطناعي ايضا؟ لان بدائل التعليم كثيراً ما فشلت في انتاج«الشرعية»بنفس القوة:قد تعطيك معرفة ومهارة، لكنها لا تمنحك دائما الاعتراف الذي يفتح الابواب، ولا توفر بيئة اجتماعية تُشكّل الهوية المهنية والشبكات والعادات العلمية.ومع هذا، تظهر مؤشرات ان منظومة الاعتراف نفسها تتغير خارج الجامعة:منصات التعلم الكبرى تتحدث عن قاعدة تفوق 170 مليون متعلم، وعن نمو متسارع للشهادات المهنية القصيرة، ما يعني ان«الاعتراف»يمكن ان يُبنى بطرق جديدة خارج السلم التقليدي(Coursera,2025).من هنا تبدو الفكرة المركزية دقيقة:الذكاء الاصطناعي لم يصنع الازمة، بل كشف ازمة عمرها عقود في نموذج جامعي ظل يبدل الادوات(شرائح عرض، منصات)دون ان يبدل الفلسفة(تلقين، اختبار، شهادة).

المحور الثاني:الذكاء الاصطناعي كاستاذ بديل ام شريك تعليمي؟

المقارنة بين التعليم التقليدي والتعليم عبر الذكاء الاصطناعي لا تُختصر في«سرعة الاجابة»، بل في طبيعة العلاقة التعليمية نفسها.في القاعة التقليدية، يوجد مسار واحد للجميع:استاذ واحد، زمن واحد، واجب واحد، ثم امتحان واحد، مع فروق فردية تُعالج غالبا خارج الدرس لمن يملك وقتا او موارد.اما في التعلم المدعوم بالذكاء الاصطناعي، فالفكرة الجوهرية هي التخصيص:الطالب يسأل كما مصممة على مستوى صعوبته.هذا ليس«معلومة اضافية»، بل تغيير في هندسة التعلم:من بثّ جماعي الى حوار فردي.لذا ليس مفاجئا ان تُظهر الاستطلاعات قفزة كبيرة في الاستخدام:في مسح عالمي شمل اكثر من 3,800 طالب من 16 دولة، قال 86%من الطلبة انهم يستخدمون الذكاء الاصطناعي بانتظام، و54%يستخدمونه اسبوعيا، و66%يستخدمون ChatGPT تحديدا(Digital Education Council,2024).

 وفي تتبع امريكي متكرر، ارتفع استخدام الطلاب للذكاء الاصطناعي«لاي غرض»الى 89%في ربيع 2025، واستخدامه«لاغراض مدرسية/اكاديمية»الى 84%(Pearson,2025).وعلى مستوى بريطانيا، اشار مسح طلابي الى ان 92%من الطلبة يستخدمون ادوات الذكاء الاصطناعي، و88%يستخدمونها في التقييمات/المهام(HEPI&Kortext,2025).

لكن السؤال النقدي:هل يصبح الذكاء الاصطناعي«استاذا بديلا»ام«شريكا تعليميا»؟ هنا يجب تفكيك الوظائف.الذكاء الاصطناعي بارع في الشرح والتمرين والتغذية الراجعة الاولية، لكنه لا يملك وحده ضمانات الفهم العميق ولا يضمن تشكل الحكم العلمي.الخطر ليس ان يحصل الطالب على اجابة، بل ان يتحول الى مستهلك للمحتوى:يطلب حلولا جاهزة، ينسخها، ثم يمرّ بالامتحان دون ان تتكوّن لديه بنية تفسيرية او قدرة على نقد المعلومة.المفارقة ان نفس الاداة التي تفتح باب التخصيص قد تُغلق باب التفكير اذا استُخدمت كعكاز دائم.وهذا ما يجعل محور«النزاهة الاكاديمية»اكثر من مجرد ضبط وغش:عندما تصبح الاداة قادرة على انتاج مقال وتقرير وبرمجة، تنهار قيمة الواجب التقليدي بوصفه دليلا على تعلم الفرد، ويصبح القياس الحقيقي هو«كيف فكّر؟ وكيف تحقق؟ وكيف برّر؟».لذلك يمكن القول ان الذكاء الاصطناعي يجعل الاختبار اقل قيمة من طريقة التفكير، لان المشكلة لم تعد في الوصول للمعلومة بل في بنائها والتحقق منها وتوظيفها ضمن سياق.

الجامعة هنا امام منعطف:اما ان تردّ بمنع الادوات، فتخسر الواقع وتدفع الاستخدام الى الظل، او ان تعيد تصميم التعلم والتقييم بحيث يصبح الذكاء الاصطناعي جزءا من البيئة لا عدوا لها.نتائج DEC تلمح الى فجوة ادارية:80%من الطلاب قالوا ان الذكاء الاصطناعي في جامعاتهم لا يلبّي التوقعات، وفقط 5%قالوا انهم«واعون تماما»بالارشادات(Digital Education Council,2024).وفي المقابل، بيانات التتبع الطلابي تُظهر ان الاستخدام الاكاديمي يتجه نحو الاعتياد اليومي لدى شريحة معتبرة(Pearson,2025).من هنا، يصبح الذكاء الاصطناعي«شريكا»فقط اذا تحولت الجامعة الى تدريب على مهارات اعلى:صياغة سؤال جيد، التحقق من المصادر، كشف الهلوسة، بناء حجج، تصميم تجارب، وكتابة اخلاقية تُصرّح بالاستخدام وتوثقه.

المحور الثالث:ما بعد الجامعة—كيف يبدو التعليم في عصر ما بعد الشهادة؟

«ما بعد الجامعة»لا يعني غياب الجامعة من الخريطة، بل يعني ان الشهادة لم تعد وحدها عملة السوق.هناك ثلاثة اتجاهات تتسارع معا:التعلم الذاتي، الشهادات القصيرة(Micro-credentials)، ومنطق«المهارة اولا».منصات التعليم العالمية لا تقدم محتوى فقط، بل تقدم اشارات قابلة للتوظيف:في تقرير مهارات حديث، تتحدث كورسيرا عن مجتمع يتجاوز 170 مليون متعلم، وعن انفجار في تعلم الذكاء الاصطناعي التوليدي:نمو بنسبة 195%سنويا، وتجاوز 8 ملايين تسجيل تراكمي، و700 دورة GenAI بمتوسط 12 تسجيلا في الدقيقة خلال 2025.والاهم هو توسع الشهادات المهنية:اكثر من 15.4 مليون التحاق في شهادات مهنية للمستوى المبتدئ(Coursera,2025).هذا يشير الى ان«الاعتماد»يمكن ان يتحول من شهادة عمرية الى وحدات مهارية قابلة للتجميع.

سوق العمل يدفع الاتجاه نفسه.اذا كانت نسبة الوظائف التي تتطلب درجة بكالوريوس تنخفض تدريجيا، فهذا لا يعني ان التعليم صار بلا قيمة، بل يعني ان الشركات تبحث عن مؤشرات ادق من«سنوات مقعد».وفي تقرير الميكرو-كريدنشالز، تظهر اشارات قوية لاعتراف ارباب العمل:96%من ارباب العمل وافقوا على ان الميكرو-كريدنشالز تعزز طلب الوظيفة، و87%قالوا انهم وظفوا مرشحين يحملونها، و90%قالوا انهم مستعدون لدفع رواتب بداية اعلى لمن يحملها(Lumina Foundation,2024).

وفي الخلفية، تتسارع ديناميات المهارة نفسها.تقرير«سرعة تغير المهارات»يشير الى ان حوالي ثلث المهارات المطلوبة في سوق العمل عام 2024 تختلف عما كانت عليه في 2021، وان 75%من المهن تشهد تغيرا كبيرا، ما يجعل«معرفة تُحفظ مرة»غير كافية في اقتصاد سريع التحول(Lightcast,2025).وعلى مستوى النظام العالمي للعمل، تُبرز نتائج«Future of Jobs Report 2025»توقعات بخلق 170 مليون وظيفة وازاحة 92 مليونا حتى 2030، مع تغير 39%من المهارات الاساسية، و59%من العاملين يحتاجون الى تدريب، و63%من ارباب العمل يرون فجوة المهارات عائقا رئيسيا(World Economic Forum,2025).

ضمن هذا السياق يمكن تصور ثلاثة سيناريوهات تعليمية:الاول، تآكل تدريجي لدور الجامعة لصالح مسارات مهارية مرنة؛ الثاني، تحول الجامعة الى مركز بحث وتفكير عميق؛ والثالث، نموذج هجين حيث يعمل الاستاذ والذكاء الاصطناعي معا:الاستاذ يُصمم الخبرة، والذكاء الاصطناعي يقدم الشرح والتمارين والتخصيص.

الخاتمة:

بعد الذكاء الاصطناعي، لم يعد السؤال المفيد:هل تموت الجامعة؟ بل:هل تستطيع ان تتطور قبل ان تصبح غير ضرورية لبعض وظائفها؟ فالجامعة حين كانت المصدر الاكثر ندرة للمعلومة، بنَت شرعيتها على«امتلاك المحتوى».اما اليوم، ومع انتشار استخدام الذكاء الاصطناعي بين الطلبة بنسبة تصل الى 86%في مسوح عالمية(Digital Education Council,2024)، وارتفاع الاستخدام الاكاديمي الى مستويات قريبة من العمومية(Pearson,2025)، لم تعد ندرة المحتوى هي مركز القيمة، بل ندرة التفكير المنهجي، والتحقق، والاخلاق، والقدرة على تحويل المعرفة الى عمل مسؤول.وفي عالم تتغير فيه المهارات بسرعة(Lightcast,2025؛ World Economic Forum,2025)، تصبح الجامعة امام امتحان وجودي:اما ان تبقى مؤسسة تمنح«شهادة»مقابل حضور واختبار، او ان تصبح مؤسسة تُدرّس الانسان كيف يفكر مع الذكاء الاصطناعي لا ضده.

الخلاصة ان الذكاء الاصطناعي اعاد تعريف قيمة العقل البشري لا المعرفة فقط.الجامعة المستقبلية لن تفوز بمنع الادوات ولا بتجاهلها، بل بتغيير فلسفة التقييم والتعليم:مهام تعتمد على تفسير ونقد وتوثيق، مختبرات ومشاريع، تعليم مهارات السؤال والتحقق، وتدريب اخلاق المهنة والشفافية في استخدام الادوات.المستقبل لا يحتاج جامعة تلغي الذكاء الاصطناعي، بل جامعة تدرّس الانسان كيف يفكر معه.

 

الوسائط والمرفقات

الفيديوهات (1)
التحميلات
نهاية الجامعات؟ التعليم ما بعد الذكاء الاصطناعي.pdf
124.2 KB