تبدو الموضة الصامتة(Quiet Luxury)في ظاهرها كخيار جمالي بسيط:الوان حيادية، قصات نظيفة، خامات فائقة الجودة، وشعور عام بان اناقة لا تحتاج الى شعار كبير.غير ان هذا الصمت ليس بريئا تماما في السياق الثقافي والاجتماعي.فالموضة، تاريخيا، ليست قماشا فقط بل لغة مكانة:من يملك القدرة على شراء الجودة الهادئة يرسل رسالة مختلفة عن من يضطر لشراء الاشارة الصريحة(الشعار/اللوغو)كي يثبت وجوده في السوق الرمزي.لهذا تحولت Quiet Luxury خلال 2023–2024 الى ظاهرة تتجاوز الذوق، لتصبح موضوعا عاما عن الطبقة والهوية والقلق الاجتماعي:كيف صارت الرفاهية مرغوبة عندما لا تصرخ؟ وكيف يمكن لشيء متواضع بصريا ان يكون مستفزا طبقيا؟ هذا السؤال تعززه الكتابات التي ربطت الظاهرة بثقافة stealth wealth وold money aesthetic، وبانها نسخة جديدة من التفاخر ولكن بقواعد مختلفة:ليس التفاخر بالعلامة، بل التفاخر بالقدرة على الاستغناء عن العلامة علنا، مع بقاء قيمتها سرا.
لفهم صعود هذه الموضة، يفيد النظر الى بيئتها الثقافية القريبة:وسائل التواصل صارت مسرحا لعرض الحياة اليومية للاثرياء، وفي الوقت نفسه صارت مساحة لرصدهم وتحليلهم وتفكيك شفرات اسلوبهم.في هذا المناخ ظهر تعبير Succession-core المرتبط بمسلسل Succession الذي قدم ثراء فاحشا بملابس هادئة تبدو عادية لمن لا يملك معرفة بالماركات والخامات، لكنها غالية ومقصودة لمن يعرف.كذلك ساهمت عدسات الاعلام الشعبي في تكريس الفكرة:ان الشخص الثري حقا لا يحتاج شعارا كي يثبت ثراءه، وان الذوق الرفيع يمر عبر الحرفية والخامة والبساطة.هذا التناول الاعلامي لا يخلق الموضة وحده، لكنه يوفر لها قصة جذابة وسهلة التكرار:الثراء يهمس.
لكن التحليل الاجتماعي يفرض حذرا:ما يبدو كدعوة الى البساطة قد يكون اعادة تصميم لعلامات التمايز الطبقي.بيير بورديو يرى ان الذوق ليس مجرد تفضيل فردي، بل نتاج اجتماعي مرتبط بما يسميه راس المال الثقافي والقدرة على قراءة الرموز وتملكها.ضمن هذا المنظور، Quiet Luxury تعمل كامتياز معرفي:من يملك التعليم، والاحتكاك، والوقت، والبيئة التي تعلمه الفرق بين صوف فاخر وصوف عادي، وبين قصة معطف محايدة لكنها مضبوطة هندسيا، يستطيع ان يرسل اشارة مكانة غير مباشرة لا يفهمها الجميع.وهنا يحدث ما يشبه الاقصاء الناعم:ليست هناك لافتة تقول انا من طبقة اعلى، بل اشارات دقيقة لا يلتقطها الا من ينتمي الى الدائرة نفسها.هذا يعيد انتاج الفوارق لا عبر الصراخ، بل عبر طبيعية الذوق، وهو ما يجعل الموضة الصامتة اقرب الى آلية تمييز اجتماعي منها الى جمال محايد.
اذا عدنا الى فيبلن، سنجد ان الموضة كانت تاريخيا اداة استهلاك استعراضي(conspicuous consumption):تشتري ما لا تحتاجه كي يراك الآخرون.الجديد هنا ان الاستعراض نفسه تغير شكله:في زمن صار فيه اللوغو متاحا بالتقليد او بالشراء على اقساط، فقدت الاشارة الفجة جزءا من قوتها، وصار التمايز يبحث عن منطقة اصعب:استهلاك لاافت لكنه مكلف ويتطلب معرفة.لهذا تبدو Quiet Luxury وكأنها انتقال من عرض الثروة على السطح الى دفنها في التفاصيل:خامة لا يعرفها الجميع، تفصيل خياطة لا يلاحظه الا المتخصص، ماركة لا تضع اسمها اصلا.فيبلن يجعلنا نرى ان المشكلة ليست الشعار بحد ذاته، بل وظيفة الموضة كسباق على المكانة؛ وعندما تتغير قواعد السباق، تتغير ادواته لا اكثر.
الادبيات الاحدث عن الاستهلاك غير اللافت تساعد على تفسير هذه النقلة.اليزابيث كوريد-هالكيت تقترح ان طبقة طموحة جديدة(aspirational class)لا تكتفي بالسلع اللامعة، بل تستثمر في اشياء صغيرة لكنها عالية الدلالة:تعليم، صحة، غذاء عضوي، خبرات، وذائقة تتطلب معرفة.هذا المنطق ينسجم مع Quiet Luxury:ليس الهدف ان يراك الجميع، بل ان يراك النوع الصحيح من الناس.وهنا يتحول الاستهلاك الى اختبار عضوية:من يفهم الاشارة؟ ومن يملك موارد الوقت والمعرفة كي يتبناها؟ المفارقة ان هذا النوع من الاستهلاك قد يبدو اخلاقيا او اقل فجاجة، لكنه قد يكون اكثر قسوة طبقيا لانه يختبئ خلف خطاب الجودة والاستدامة والذوق، بينما يبقى مكلفا ومحصورا.
وسائل التواصل لم تكتف بترويج Quiet Luxury، بل حولتها الى ضجيج مرئي هائل.فكيف تكون صامتة وهي ترند؟ هنا تظهر مفارقة ثقافة المنصات:كل ما ينجح يتم تحويله الى هاشتاغ ثم الى قوالب تعليمية(كيف تبدو old money)ثم الى تقليد واسع.مؤشرات الانتشار ليست مجرد انطباع؛ فبيانات تتبع الترندات في TikTok اظهرت مثلا ان هاشتاغ#oldmoney حصد مليارات المشاهدات(بحسب تتبع Vogue Business في اكتوبر 2024).هذا الانتشار يعني ان رمز الندرة يستهلك جماهيريا، فتضطر النخبة الى الهروب خطوة اخرى:اما الى تخصيص اعلى(tailoring/bespoke)او الى علامات ادق، او حتى الى عودة الزينة عندما يفقد الصمت فائدته.هذا ما لمحته ايضا قراءات صحفية رأت ان quiet luxury بدأت تفقد بريقها كصيغة واحدة، مع ميل عروض ومشهد الموضة لاحقا الى flair او مبالغة جديدة.
من زاوية سوسيولوجية كلاسيكية، جورج زيمل وصف الموضة بوصفها لعبة بين نزعتين:التقليد(الاندماج)والتمييز(الاختلاف).عندما تتبنى الطبقات الدنيا شكل الطبقات العليا، تبحث العليا عن شكل جديد لتستعيد التميز؛ وهكذا تدور الدائرة.Quiet Luxury يمكن قراءتها كحلقة متقدمة في هذه اللعبة:بعد موجات اللوغو الصاخب، انتقلت الاشارة الى تفاصيل لا يسهل نسخها فوريا الا بالتصنيع عالي الجودة او بالمعرفة، ثم ما تلبث ان تقلد عبر fast fashion، فتفقد اشارة الندرة تدريجيا.بمعنى آخر، الصمت ليس نهاية الاستعراض، بل تكتيك ضمن دورة دائمة من التحول.
يبقى السؤال الاخلاقي-الطبقي:هل Quiet Luxury تخفي الفوارق ام تكشفها؟ الواقع انها تفعل الاثنين معا.هي تخفيها بصريا، فلا يبدو الفارق بين معطف فائق الكلفة ومعطف عادي واضحا لغير العارفين، لكنها تكشفها اجتماعيا لانها تحول المعرفة نفسها الى امتياز.عندما تصبح القدرة على التعرف الى خامة معينة او ماركة غير معلنة معيارا للانتماء، يصبح الفارق الطبقي اعمق:ليس من يملك المال فقط، بل من يملك المعايير ايضا.وهذا يلتقي مع قراءة رأت في هوس stealth wealth رسالة عن قلق الطبقات الاوسع، ورغبتها في فهم عالم الاغنياء او محاكاته، في لحظة تتسع فيها الفجوة الاقتصادية ويزداد فيها التلصص الاجتماعي على ثراء لا يمكن بلوغه بسهولة.
مع ذلك، سيكون تبسيطا اتهام كل من يفضل الهدوء بانه يمارس اقصاء طبقيا واعيا.فهناك جانب صادق محتمل:بعض المستهلكين يرفضون الاستهلاك الاستعراضي فعلا، ويميلون الى شراء قطع اقل عددا واطول عمرا، ويبحثون عن حرفة وخامة واحترام للجسد والوقت.الصحافة نفسها لاحظت هذا التوتر:quiet luxury يمكن ان تقرأ كاستجابة لضغط الاستهلاك السريع وازمة المناخ، لكنها في الوقت ذاته تبقى محملة بهالة المكانة والمال، وهالة المكانة لا تزول بمجرد خفض الصوت.الفرق هنا يتوقف على السياق والقدرة:الشراء الاقل قد يكون وعيا بيئيا عند من يملك بدائل، لكنه قد يكون قسرا عند من لا يملك الا شراء الارخص كل موسم بسبب ضعف الجودة.وهنا تتضح الطبيعة الطبقية مرة اخرى:حتى خطاب الاستدامة يمكن ان يعمل كمرشح طبقي اذا صار مكلفا ومحصورا.
في الخلاصة، Quiet Luxury ليست مجرد ذوق راق ولا مجرد خدعة طبقية؛ هي صيغة ثقافية هجينة تجمع الجمال والسلطة معا.هي ذوق لانه يفضل البساطة والحرفة فعلا، لكنه ايضا سياسة رمزية لانه يعيد ترتيب اشارات المكانة من الشعار الى المعرفة، ومن الاستعراض للجميع الى الاعتراف من الداخل.وفي عصر المنصات، تتحول هذه الاشارات بسرعة الى محتوى قابل للتكرار، فتفقد خصوصيتها، ويبدأ سباق جديد على تمييز ادق.لذلك ربما تكون الحقيقة الاكثر دقة هي ان Quiet Luxury لا تلغي الفوارق الطبقية ولا تخفيها بالكامل؛ بل تعيد صياغتها بلغة اهدأ، وتجعلها تعمل عبر شفرة تبدو بريئة، لكنها شديدة الفاعلية في فرز الناس الى دوائر:من يفهم، ومن لا يفهم، ومن يستطيع، ومن لا يستطيع.

التعليقات