الرقمنة وتأثيرها على علاقتنا بالكتاب الورقي

الرقمنة غيّرت طريقة قراءتنا، لكن الورق ما زال يمنحنا عمقًا وذاكرة لا تستطيع الشاشة مجاراتهما.

الرقمنة وتأثيرها على علاقتنا بالكتاب الورقي

في العقود الأخيرة، أدّت الرقمنة إلى إعادة صياغة علاقة الإنسان بالقراءة على نحو غير مسبوق، حيث لم يعد الكتاب الورقي هو الوعاء الوحيد للمعرفة، بل أصبح منافسًا ضمن منظومة واسعة من الوسائط الرقمية التي تتضمن الكتب الإلكترونية، والأجهزة اللوحية، والهواتف الذكية، والمنصات السمعية.هذا التحول لا يمكن اختزاله في ثنائية"مفيد/ضار"، لأن تأثيره يتجاوز البعد الوظيفي نحو إعادة تشكيل مفاهيم مثل العمق، والانتباه، والارتباط العاطفي، وحتى معنى فعل"القراءة"ذاته.وتشير الإحصاءات العالمية إلى أن ثلثي القراء تقريبًا يجمعون اليوم بين القراءة الورقية والرقمية، ما يعكس حالة تداخل لا صراع، تحكمها عوامل معرفية وعاطفية وسياقية(Pew Research Center,2021).إن هذه المعطيات تفرض قراءة تحليلية تتجاوز الأحكام المعيارية لتفهم كيف غيرت الرقمنة علاقتنا بالكتب، وما الذي بقي ثابتًا في هذا التحول.

تُظهر دراسات علم النفس المعرفي أن التحول من الورق إلى الشاشة أثّر بشكل واضح على عمق القراءة وطرق معالجة النصوص.فقد وجدت دراسة شهيرة أن القراءة الورقية تمنح القارئ تمثيلًا فضائيًا أوضح للنص؛ فملمس الورق وإحساس التقليب يساعدان على تكوين“خريطة معرفية”تمكّن من استرجاع أفضل للمعلومات(Anne Mangen).بينما تُظهر الشاشات–رغم سهولة الوصول–ميلاً إلى“التصفح السريع”بدلاً من القراءة المتعمقة، مع ارتفاع مستويات التشتت بسبب الإشعارات وتعدد المهام(Baron,2015).ومع ذلك، فإن هذه النتائج ليست حتمية، إذ تشير مراجعات حديثة إلى أن القارئ المتمرّس على الوسائط الرقمية قادر على تحقيق مستويات مشابهة من الفهم والاستيعاب إذا تحكم في بيئة التشتيت وأعاد تشكيل عاداته القرائية(Clinton,2019).وبذلك، فإن التغير ليس في قدرة الإنسان ذاتها، بل في شروط الممارسة الجديدة التي فرضتها طبيعة الوسيط.

ومع توسع القراءة الرقمية، برز سؤال جوهري حول طبيعة الكتاب الورقي:هل هو مجرد“أداة لنقل المعلومات”، أم يحمل قيمة رمزية وعاطفية تتجاوز الوظيفة؟ تشير الأبحاث الثقافية إلى أن الكتاب الورقي لطالما مثّل رمزًا للهوية الثقافية، والاستمرارية التاريخية، والحميمية الشخصية، فهو ليس وعاءً محايدًا بل تجربة حسية كاملة:رائحة الورق، الحبر، الملمس، الرفوف المنزلية، الطقوس النفسية للقراءة الهادئة(Darnton,2009).وتؤكد دراسات الإثنوغرافيا القرائية أن القراء غالبًا ما ينسبون للكتاب الورقي معاني الانتماء والطمأنينة والذاكرة، خصوصًا في سياقات التعليم والتكوين الثقافي الأولي(Sellen&Harper,2003).في المقابل، يتميّز الكتاب الرقمي بخفة الحمل، والبحث الفوري، وتعدد المهام، ما يجعله أداة وظيفية أكثر من كونه رمزًا ثقافيًا.هذا لا يعني تراجع الكتاب الورقي، بل تحوّل دوره؛ فقد أصبح–في زمن الفائض الرقمي–رمزًا للبطء، والتركيز، والعودة إلى الذات، أي فعل مقاومة ثقافية لا مجرد وسيط معرفي.

أما الكتب الصوتية، فقد أعادت تعريف فعل القراءة ذاته، إذ لم تعد القراءة مرادفة للنظر في النص، بل أصبحت تجربة سمعية يمكن ممارستها أثناء الحركة أو الأعمال اليومية.وتُظهر بيانات شركة Audible أن الاستماع للكتب الصوتية ارتفع بنسبة تتجاوز 25%سنويًا في العديد من الأسواق العالمية(Audible,2022).ويشير علماء الإدراك إلى أن معالجة النص المسموع تُنشّط مناطق مختلفة من الدماغ مقارنة بالقراءة البصرية، مما ينتج تجربة إدراكية أكثر قربًا من السرد الشفهي التقليدي(Rosenblum,2019).ومع ذلك، فإن طبيعة الاستماع–بكونها تجربة يسهُل فيها الشرود–قد تؤثر على الاستيعاب العميق ما لم يُعد المستمع تنظيم انتباهه(Moore&Gordon,2016).إن الكتب الصوتية لا تُضعف القراءة، بل توسّع معناها؛ فهي تعيد الاعتبار لثقافة الصوت في عالم طغت عليه الصورة، وتمنح مساحة جديدة للذين يجدون صعوبة في المطالعة الورقية أو الزمنية.

في ضوء ذلك، يمكن القول إن الرقمنة لم تُلغِ الكتاب الورقي، ولم تُفقد القراءة معناها، بل أنتجت بيئة قرائية هجينة تجمع بين الورقي والرقمي والسمعي.إن مستقبل القراءة لا يقوم على صراع بين الوسائط، بل على تكاملها، حيث يصبح القارئ هو الذي يختار الوسيط وفقًا للسياق والهدف والحالة النفسية.فالقراءة الرقمية قد تناسب البحث السريع، والتنقل، والتعلّم المهني المستمر، بينما القراءة الورقية قد تمنح العمق والهدوء والمعنى الرمزي، في حين توفر الكتب الصوتية بُعدًا شفهيًا يعيد تعريف فعل التلقي نفسه.إن الرقمنة أعادت تشكيل علاقتنا بالكتاب لا بإلغائه، بل بإدخاله في منظومة متعددة القنوات توسع مفهوم المعرفة بدلًا من تضييقه.

شاهد الفيديو للمزيد

الوسائط والمرفقات

الفيديوهات (1)
التحميلات
الرقمنة وتأثيرها على علاقتنا بالكتاب الورقي.pdf
107.9 KB