شهد العالم خلال العقد الأخير ظهور واحدة من أكثر الظواهر الاجتماعية إثارة للجدل في الفضاء الرقمي:ثقافة الإلغاء، أو ما يُعرف بـ Cancel Culture.صارت هذه العبارة تُستخدم لوصف حالة جماعية من الرفض والمقاطعة والتشهير تجاه شخصية عامة، أو شركة، أو حتى فرد عادي، بعد قيامه بتصرف أو نشره لرأي يُعد"غير أخلاقي"أو"مسيئًا"في نظر الجمهور.في البداية، نشأت الظاهرة في سياق حركات تهدف إلى كشف الانتهاكات، مثل حركات مناهضة التحرش(#MeToo)أو مناهضة العنصرية(Black Lives Matter)، لكنها سرعان ما تحولت إلى آلية جماعية لتأديب الأشخاص عبر الإنترنت، تصل أحيانًا إلى حد تدمير سمعتهم المهنية والاجتماعية بالكامل.
تقدّم ثقافة الإلغاء نفسها باعتبارها شكلًا من أشكال"العدالة الشعبية"، حيث يأخذ الناس دور المحاكم الأخلاقية حين يشعرون أن المؤسسات القانونية عاجزة عن مواجهة المسيئين، أو متواطئة معهم.ولكن مع صعود تأثيرها، بدأ الجدل يكبر:هل الإلغاء أداة ضرورية لمحاسبة أصحاب النفوذ؟ أم أنه تحوّل إلى فوضى معايير، تُقصي كل رأي مخالف، وتحوّل الإنترنت إلى مساحة خوف؟
أولا:سياق نشوء"ثقافة الإلغاء"—من العدالة الاجتماعية إلى الضغط الرقمي
لكي نفهم ثقافة الإلغاء، لا بد من العودة إلى جذورها.فالظاهرة لم تظهر فجأة، بل نشأت من بيئة اجتماعية شهدت غضبًا واسعًا من عدم محاسبة المتحرشين، العنصريين، المسيئين، وأصحاب السلطة الذين كانوا بمنأى عن النقد أو العقاب.كان الإنترنت، في بداياته، فضاءً مفتوحًا للبوح وفضح الانتهاكات التي لا تصل إليها وسائل الإعلام أو أجهزة الدولة.ومن هنا بدأت ثقافة الإلغاء كأداة لتمكين المهمشين.
في سياق حركة#MeToo، ظهرت قوائم تُنشر فيها أسماء متهمين بالتحرش في أماكن العمل.كان الهدف واضحًا:حماية النساء من أشخاص تتستر عليهم المؤسسات.كذلك الحال في حركة Black Lives Matter، حيث لعب الإنترنت دورًا محوريًا في فضح عنف الشرطة والعنصرية البنيوية.في هذه السياقات، كان الإلغاء منطقيًا:هو تعويض عن غياب العدالة الرسمية.لكن مع الوقت، ومع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، تغيّرت ديناميات هذه الممارسات.فاليوم، لا يحتاج الأمر إلى جريمةٍ حقيقية أو سلوك خطير.أحيانًا يكون سبب الإلغاء رأيًا قديماً تم نشره قبل عشر سنوات، أو مزحة غير موفقة، أو حتى استخدام كلمة تعتبر"حساسة"في سياق غير واضح.وهكذا اتسع نطاق الظاهرة لتشمل السلوكيات الصغيرة، والاختلافات الفكرية، والآراء السياسية.
أحد العوامل التي تسهم في تضخم الظاهرة هو طريقة عمل الخوارزميات.فوسائل التواصل الاجتماعي تدفع المحتوى المثير للغضب إلى الواجهة، لأنه يحقق تفاعلًا أعلى.وكلما ازدادت موجة الغضب، زاد انتشارها، وتحوّل الإلغاء إلى ظاهرة اجتماعية جماعية.لم تعد المسألة تتعلق بمحاسبة شخص بعينه؛ بل أصبح لديها طابع"الترند"الذي تتسابق الجماهير للمشاركة فيه.
عامل آخر مهم هو فقدان الثقة بالسلطات التقليدية.فالجمهور بات يعتبر أن القضاء بطيء، والإعلام متحيّز، والشركات تهتم بالربح أكثر من الأخلاق.لذلك يلجأ الناس إلى الإلغاء باعتباره"عدالة موازية"، أو سلطة بديلة لتصحيح الأخطاء.هذا الإحساس بالتمكين جعل الظاهرة تنتشر بين مختلف الفئات، وبات من السهل على أي شخص أن يصبح"قاضيًا رقميًا"، ولو للحظات.إلا أن المشكلة الحقيقية تكمن في انتقال ثقافة الإلغاء من أداة للعدالة إلى سلاح اجتماعي.فبينما كانت في بدايتها موجّهة لمواجهة الجرائم والانتهاكات، تحوّلت اليوم إلى طريقة لمعاقبة أي شخص يخرج عن الخطاب السائد.
ثانيا:الإلغاء كأداة للسيطرة الاجتماعية—ما بين الأخلاق الرقمية وضغط الجماعة
مع انتشار الظاهرة، أصبح الإلغاء جزءًا من أخلاق الإنترنت الجديدة، حيث تتقاطع المعايير الأخلاقية مع رغبة الأفراد في الانتماء إلى مجموعات رقمية.يتولد عن هذا ما يشبه"الأخلاق اللحظية"، إذ تتشكل القيم ليس عبر نقاش عقلاني أو وعي جماعي، بل من خلال موجات غضب متتابعة.واحدة من الظواهر المرتبطة بذلك هي سيكولوجيا القطيع.فعندما يبدأ الإلغاء ضد شخصية ما، يشعر كثيرون بأن عليهم الانضمام للموجة كي لا يُنظر إليهم بوصفهم"متواطئين".وهذا ما يجعل الإلغاء قوة هائلة:ليس لأنه مبرّر أخلاقيًا، بل لأن الناس يخافون من البقاء خارج الإجماع الرقمي.يتحوّل الإلغاء هنا إلى أداة ضغط اجتماعي تفرض على الجميع تبني خطاب واحد، وموقف واحد، ورؤية واحدة لما هو صحيح أو خطأ.ومن أخطر نتائجه أنه يدفع الناس إلى ممارسة الرقابة الذاتية.كثير من المبدعين والكتّاب والإعلاميين اليوم يقولون صراحة إنهم يخافون من الإلغاء، فيفضّلون الصمت على قول رأي قد يثير غضب الجماعات الرقمية.
يضاف إلى ذلك أن الإلغاء لا يفرّق بين النية والسياق.فخطأ بسيط، أو رأي معقد يحتاج وقتًا لتفسيره، قد يُختصر في مقطع قصير يثير موجة غضب، فيُحاسَب الشخص كما لو أنه ارتكب جريمة أخلاقية.هنا تتحول الأخلاق الرقمية إلى قانون مشوّه، يُطبق بلا معايير واضحة أو ضمانات.كما يخلق الإلغاء نوعًا من“النفاق الاجتماعي الرقمي”.فالكثير من المستخدمين يشاركون في الإلغاء ليس لأنهم يؤمنون بالقضية، بل لأنهم يخشون الانتقاد.البعض يقوم بذلك لكسب إعجابات، أو رغبة في الظهور، أو إحساس بالبطولة الأخلاقية.إنها أخلاق تُنتَج خارج المؤسسات، وتعيش داخل الخوف.
المؤسسات نفسها ليست بمنأى عن هذا الضغط.شركات كبرى عمدت إلى طرد موظفين أو إيقاف مشاهير بسبب موجات غضب جماهيرية، حتى قبل التحقيق في الحقائق.لأن الخوف من الخسارة المالية أو الضرر الإعلامي يجعلها تتصرف بسرعة، وفي بعض الأحيان باندفاع.إلى جانب ذلك، يفتح الإلغاء الباب أمام معارك أيديولوجية، إذ تتم مهاجمة أشخاص لا لشيء إلا لخلافات سياسية.تتحول الأخلاق إلى سلاح في الصراع الثقافي، لا إلى معيار للمحاسبة.وهنا يصبح الإلغاء أداة لترويج خطاب واحد وقمع التعدد.
ثالثا:من العدالة إلى الفوضى—الآثار الاجتماعية السلبية وثمن الإلغاء
إذا كان الإلغاء بدأ كأداة محاسبة، فإنه اليوم يحمل مخاطر عديدة على الأفراد والمجتمع.أبرز هذه المخاطر هو التشهير، إذ يمكن أن يتم تدمير سمعة شخص خلال ساعات قليلة، بناءً على مقطع مجتزأ أو اتهام لم يتم التحقق منه.ولا توجد آلية حقيقية لاستعادة السمعة بعد ذلك، لأن الإنترنت لا ينسى.المشكلة الأكبر هي غياب مبدأ التناسب.ففي ثقافة الإلغاء، لا فرق بين خطأ بسيط وجريمة خطيرة؛ كلاهما يعامَل بالطريقة ذاتها.هذا الخلط يجعل العقاب قاسيًا وغير عادل.شخص قد يخسر وظيفته، أسرته، أو صحته النفسية بسبب موجة غضب مؤقتة.هناك أيضًا مشكلة غياب السياق.فجزء كبير من الإلغاء يستند إلى تصريحات قديمة قيلت في زمن كان المجتمع يتبنّى فيه قيماً مختلفة.الحكم بمعايير الحاضر على مواقف الماضي يخلق ظلمًا، ويمنع أي إمكانية للتطور أو التعلم من الأخطاء.
إضافة لذلك، يؤدي الإلغاء إلى خنق الإبداع والفكر النقدي.ففي بيئة يخاف الناس فيها من الإلغاء، لا يمكن للخطاب العام أن يكون حيويًا أو متنوعًا.الجامعات، الفن، الصحافة، والبحث العلمي—جميعها تحتاج إلى حرية نقاش، لا خوف دائم من الرقابة الجماعية.أما على المستوى النفسي، فالإلغاء يمكن أن يؤدي إلى الاكتئاب، العزلة، وحتى الانتحار في بعض الحالات.التنمر الجماعي عبر الإنترنت يشبه“المحاكمة العلنية”التي لا توجد فيها فرصة للدفاع أو طلب الرحمة.وتظهر أيضًا مخاطرة التلاعب السياسي.فقد تستخدم جهات معينة موجات الإلغاء لتصفية حسابات أو إسكات خصوم.في هذه الحالة، تتحول الظاهرة من آلية مجتمعية إلى سلاح سياسي.
باختصار، حين يفقد الإلغاء شروط العدالة—التحقيق، التناسب، الحق في الاعتذار—يتحوّل إلى فوضى.فالإلغاء غير الخاضع للمحاسبة يصبح شبيهًا بمحكمة بلا قاضي، وجمهور بلا معايير.
رابعا:خاتمة
تبدو ثقافة الإلغاء ظاهرة معقدة يصعب تصنيفها ببساطة كشيء جيد أو سيئ.فهي في أصلها محاولة جماعية لسدّ فجوة العدالة، ولإجبار المؤسسات على محاسبة المسيئين، خصوصًا في زمن تختلط فيه السلطة الإعلامية بالاقتصاد والسياسة.لكن توسع الظاهرة وتحولها إلى سلاح رقمي سريع يفقدها الكثير من قيمتها الأخلاقية، ويحوّلها إلى وسيلة لفرض الخوف والصمت بدل تحقيق العدالة.
تحتاج المجتمعات إلى محاسبة، نعم، لكنها تحتاج أيضًا إلى معايير عادلة، وإلى فضاء يسمح بالتعلم والتراجع والاعتذار.الفرق بين العدالة والإلغاء هو أن العدالة تمنح فرصة للتصحيح، بينما الإلغاء غالبًا يُنهي الحياة المهنية لشخص دون نقاش أو دفاع.السؤال الحقيقي ليس:هل نلغي ثقافة الإلغاء؟، بل:كيف نعيد ضبطها بحيث تكون وسيلة للمحاسبة المسؤولة، لا للفوضى الأخلاقية؟
في زمن أصبحت فيه وسائل التواصل الاجتماعي تشكل جزءًا أساسيًا من حياتنا، نحتاج إلى إعادة التفكير في دورنا كمشاركين في هذا الخطاب، وأن نميز بين النقد البنّاء والتنمر الجماعي، بين المحاسبة والإعدام الرقمي.بهذه الطريقة وحدها يمكن للمجتمع الرقمي أن يكون أكثر عدالة ورحمة وتوازنًا.

التعليقات