تظهر ثقافة«الترند»اليوم كعدسة حادة نرى من خلالها كيف تعيد الخوارزميات تشكيل ذائقتنا الثقافية.فالمستخدم العادي يقضي في المتوسط نحو ساعة و16 دقيقة يوميًا في مشاهدة فيديوهات قصيرة على المنصات المختلفة، بينما يقضي البالغون في الولايات المتحدة حوالي 58 ساعة شهريًا على تيك توك وحده(Firework، 2025).هذه الأرقام تعني أن جزءًا كبيرًا من وقت«الاستهلاك الثقافي»يمر عبر بوابة خوارزميات مصمَّمة لتعظيم التفاعل والمدة التي نبقى فيها على المنصة، لا لتعظيم عمق التجربة الثقافية أو جودتها.هنا يبدأ السؤال:هل صار عمر العمل الفني أو الفكري يُقاس بعدد الأيام التي يظل فيها«ترند»أكثر مما يُقاس بقدرته على البقاء في الذاكرة لعقود؟ تشير دراسات عن عمر المنشورات إلى أن 75٪ من انطباعات منشور في فيسبوك تتحقق خلال أول ساعتين ونصف، وأن معظم التفاعل على أغلب المنصات يحدث خلال أول 24–48 ساعة(Green Umbrella، 2019؛ NeoReach، 2021)، ما يعني أن نافذة الاهتمام قصيرة جدًا، وأن منطق المنصة يكافئ ما ينجح في هذه النافذة لا ما ينجح على مدى زمني طويل.
هذا المنطق يظهر بوضوح في صناعة الموسيقى؛ فوفق تقرير مشترك بين تيك توك وشركة Luminate، فإن 84٪ من الأغاني التي دخلت قائمة Billboard Global 200 في عام 2024 كانت قد انتشرت أولًا على تيك توك.كما أظهر تقرير آخر أن أكثر من 175 أغنية ترند على تيك توك دخلت قائمة Billboard Hot 100 في عام واحد فقط، وهو ضعف الرقم في العام السابق.هذا الارتباط جعل نقادًا يشيرون إلى أن شركات الإنتاج باتت تشجع الفنانين على صناعة مقاطع موسيقية«صالحة للترند»أكثر من اهتمامها بألبومات متكاملة أو تجارب فنية طويلة النفس(The Guardian، 2024).وإذا أضفنا إلى ذلك أن متوسط زمن المشاهدة الجيد على تيك توك لا يتجاوز 15–20 ثانية(Planable، 2025)، يصبح من المنطقي أن يُعاد تشكيل الأغنية، والمشهد، وحتى الفكرة، بما يناسب هذه الثواني القليلة، لا بما يناسب استماعًا متأنيًا أو قراءة عميقة.
في هذا السياق تبدو الأعمال العميقة والبطيئة وكأنها تتحرك عكس التيار.فالخوارزميات تُكافئ المحتوى القصير عالي الإثارة، في حين تحتاج الأعمال الفكرية والأدبية المعقدة إلى وقت وتأمل وتركيز، وهي عناصر نادرة في بيئة يفضِّل فيها 61٪ من المستطلعة آراؤهم الفيديو القصير على المقالات أو البودكاست أو الفيديوهات الطويلة(Media.net، 2025).المشكلة ليست في استحالة بقاء العمل العميق، بل في أن حجم الحوافز الاقتصادية والثقافية يميل بوضوح لصالح السريع والخفيف، فيدفع المنتجين والناشرين إلى تهميش المشاريع الطويلة التي تحتاج سنوات من العمل لصالح أعمال يمكن أن«تحرق»في بضعة أيام من الترند.
يبقى السؤال الأخير:هل نحن من يحدد الترند، أم أن الخوارزميات هي الفاعل الحقيقي؟ من الناحية الشكلية، يعتمد الترند على نقراتنا ومشاركاتنا واختياراتنا، لكن الأبحاث حول البيئات الرقمية المُرتَّبة خوارزميًا تشير إلى أن ما نراه بالأساس هو نتيجة ترتيب غير شفاف يهدف إلى تعظيم التفاعل، وقد يكون له أثر في تضييق تنوع المحتوى وتغذية التحيّزات(Kelm، 2023؛ Ludwig، 2023).تقرير صادر عن Ofcom في 2025 وجد أن من يحصلون على أخبارهم أساسًا عبر وسائل التواصل كانوا أقل قدرة على الإجابة بدقة عن أسئلة تتعلق بالحقائق الإخبارية مقارنة بمن يستخدمون مصادر إخبارية أكثر تنوعًا(Ofcom، 2025)، ما يوحي بأن الخوارزميات لا تختار فقط ما نراه، بل تؤثر أيضًا في نوع المعرفة التي نحملها عن العالم.ومع اتساع زمن استهلاك الفيديوهات القصيرة–حيث استخدم 1.6 مليار شخص هذا النمط، أي نحو 20٪ من سكان العالم(Yaguara، 2025)–يتضح أن ثقافة الترند ليست مجرد انعكاس لذوق الجمهور، بل هي نتاج تفاعل غير متكافئ بين تفضيلات المستخدمين وتصميم خوارزميات تُعيد تعريف ما نعتبره«ناجحًا»أو«مهمًا»في المجال الثقافي.
شاهد الفيديو للمزيد

التعليقات