واجهات الدماغ–الحاسوب: اختراقات سريرية تقرّبنا من دمج الإنسان بالآلة

واجهات الدماغ–الحاسوب تنتقل من المختبر إلى الجسد، لتحوّل الإشارات العصبية إلى كلام وحركة… وتفتح بابًا جديدًا بين الإنسان والآلة.

 واجهات الدماغ–الحاسوب: اختراقات سريرية تقرّبنا من دمج الإنسان بالآلة

تُشير واجهات الدماغ–الحاسوب(Brain-Computer Interfaces,BCI)إلى منظومة من الحساسات والخوارزميات تربط النشاط العصبي مباشرة بالحاسوب أو الأجهزة الإلكترونية، بحيث يمكن تحويل النوايا أو محاولات الحركة أو الكلام إلى أوامر رقمية.خلال الفترة 2023–2025 انتقلت هذه التقنيات من مرحلة"برهان المبدأ"في مختبرات الجامعات إلى تجارب سريرية مبكرة تقودها شركات ناشئة ذات تمويل ضخم مثل Neuralink وParadromics وSynchron وBlackrock Neurotech، مع تقديرات استثمارية تتحدث عن سوق محتمل يبلغ مئات المليارات من الدولارات في العقود المقبلة(Rao,2024؛ Toews,2025).هذا التحول السريع يثير سؤالاً تحليلياً محورياً:إلى أي مدى اقتربت هذه الشركات فعلاً من تسويق زرعات دماغية قادرة على استعادة الحركة أو الكلام قبل عام 2030، وما طبيعة الاختراقات التقنية والسريرية التي تحققت حتى الآن؟

بالنسبة إلى Neuralink، تمثّل السنوات الأخيرة نقلة نوعية في مسار الشركة.فبعد حصولها على موافقة هيئة الغذاء والدواء الأميركية(FDA)على أول تجربة سريرية من نوع PRIME في عام 2023 لاستهداف المصابين بالشلل الرباعي أو التصلب الجانبي الضموري(ALS)، أعلنت الشركة في يناير 2024 عن زرع أول شريحة دماغية في إنسان، في إطار تجربة لتقييم سلامة الجهاز اللاسلكي“Link”ودقة الروبوت الجراحي المخصص للزرع(Reuters,2024؛ Parikh,2024).وخلال عام 2024–2025 نشرت Neuralink تحديثاً عن برنامج“Telepathy”أوضحت فيه أن ثلاثة أشخاص مصابين بالشلل تلقّوا الزرعة، وتمكنوا من استخدام المؤشر ولوحة المفاتيح الافتراضية للكتابة والتحكم في الحاسوب والألعاب، مع تقارير عن استقرار الإشارة وتحسن سرعة التفاعل بمرور الزمن(Neuralink,2025).في أوروبا، اختير مستشفى University College London Hospitals(UCLH)في لندن ليكون الموقع القيادي لدراسة GB-PRIME لتقييم سلامة وفعالية النظام في بيئة رعاية صحية بريطانية، ما يشير إلى توسع جغرافي واستعدادية تنظيمية تتجاوز السوق الأميركية وحدها.من الناحية التقنية، تركز Neuralink على جهاز لاسلكي كامل الزرع بعدد كبير من الأقطاب، مع اعتماد روبوت جراحي عالي الدقة، وهو ما يهدف إلى جعل عملية الزرع أقرب إلى“إجراء روتيني”يمكن توسيع نطاقه مستقبلاً إلى آلاف المرضى.غير أن مراجعات أكاديمية نبهت إلى استمرار محدودية أعداد المشاركين، وقصر مدة المتابعة، وغياب شفافية البيانات السريرية الكاملة حتى الآن(Lavazza,2025؛ Chen,2025).

في المقابل، تبني Paradromics استراتيجيتها على مفهوم“الواجهة ذات الحزمة العريضة”عالية البيانات، مع تركيز خاص على استعادة القدرة على الكلام لدى الأشخاص المصابين بالشلل.نظام Connexus عبارة عن قرص معدني صغير يحتوي أكثر من 420 قطباً ميكروسكوبيّاً يخترق سطح القشرة الحركية المرتبطة بالكلام، ويرتبط عبر سلك بوحدة اتصال مزروعة في الصدر، ما يسمح بمعدلات نقل بيانات تتجاوز ما هو متاح في العديد من الأنظمة المنافسة(Paradromics,2025a؛ Paradromics,2025b).في مايو 2025، أُنجز أول تسجيل بشري باستخدام Connexus خلال جراحة صرع في جامعة ميشيغان، وأظهرت الشركة أن النظام قادر على تسجيل الإشارات الكهربائية البشرية بدقة مع إمكانية زرعه وإزالته في أقل من 20 دقيقة باستخدام تقنيات جراحية مألوفة.ثم جاءت القفزة الأكبر في نوفمبر 2025 حين حصلت Paradromics على موافقة الـFDA لإطلاق دراسة Connect-One، وهي تجربة سريرية طويلة الأمد تستهدف مرضى يعانون من فقدان القدرة على الكلام بسبب الشلل، بهدف تقييم أمان الزرعة وقدرتها على تحويل نوايا النطق إلى نص أو كلام اصطناعي بسرعة قد تصل–بحسب تصريحات الشركة–إلى حوالي 60 كلمة في الدقيقة(Broderick,2025؛ Paradromics,2025c).تحاول Paradromics أن تميز نفسها عن Neuralink من خلال هذا التركيز الوظيفي الضيق نسبياً(استعادة الكلام)ومن خلال إبراز تفوّقها في عرض الحزمة(bandwidth)، ما قد يمنحها ميزة في التطبيقات التي تتطلب دقة عالية في فك شيفرة الإشارات المرتبطة باللغة.

شركات أخرى مثل Synchron وBlackrock Neurotech تلعب دوراً محورياً في تشكيل مشهد واجهات الدماغ–الحاسوب، رغم أن التركيز الإعلامي أقل حدة عليها مقارنة بـNeuralink وParadromics.تقدم Synchron نموذجاً مختلفاً جذرياً من خلال جهاز“Stentrode”، وهو مزروع داخل الأوعية الدموية(endovascular BCI)وليس في نسيج الدماغ مباشرة.بيانات تجربة COMMAND التي نُشرت في JAMA Neurology أظهرت إمكانية زرع الجهاز في ستة مرضى يعانون من شلل شديد، مع تحقيق قدرة عملية على التحكم في الحاسوب لمدد تصل إلى 12 شهراً من دون أحداث سلبية خطيرة تتعلق بالجهاز(Mitchell et al.,2023؛ Majidi et al.,2025).عام 2024 أعلنت Synchron عبر Clinical Trials Arena عن تحقيق نقطة النهاية الأساسية للتجربة، ما عزز موقعها كأحد رواد التجارب السريرية في هذا المجال(Barrie,2024).ثم تابعت الشركة في 2025 التكامل مع منصات الذكاء الاصطناعي من Nvidia ومع جهاز Apple Vision Pro، بحيث يستطيع المرضى التحكم في الأجهزة المنزلية والتطبيقات عبر تخيل الأوامر البصرية، مع خطة لبناء نموذج ذكاء اصطناعي معرفي يعتمد على بيانات الدماغ لتحسين دقة فك الشيفرة(Wired,2025؛ Proactive Investors,2025).

أما Blackrock Neurotech فتمثل“الجيل الأول”من الشركات التي طوّرت واجهات مزروعة تعتمد على مصفوفة Utah، وقد حصل نظامها MoveAgain على تصنيف“الجهاز الاختراقي”من FDA عام 2021، في خطوة تهدف إلى تسريع المسار التنظيمي لنظام يهدف إلى تمكين المرضى من التحكم في الأجهزة باستخدام أفكارهم.ورغم أن وتيرة الأخبار حول Blackrock أقل كثافة في 2024–2025 مقارنة بمنافسيها، فإن خبراتها الطويلة في التجارب البحثية على مرضى الشلل تُعد مرجعاً تقنياً وتنظيمياً، وتُستخدم كثيراً كنقطة مقارنة في المراجعات العلمية لوضع معايير للأمان والفعالية في واجهات الدماغ–الحاسوب المزروعة(Chen,2025؛ Chen,2025b).

في موازاة هذه الواجهات المزروعة، ظهرت موجة ثانية من الشركات التي تراهن على واجهات غير غازية أو هجينة؛ مثل Cognixion التي طورت خوذة EEG لمرضى ALS قيد التجربة السريرية، أو شركات ناشئة تحظى بتغطية إعلامية في Forbes ووسائط أخرى لتطوير خوذات أو أطقم رأس تعتمد على الذكاء الاصطناعي لتفسير إشارات الدماغ السطحية لأغراض التواصل أو التحكم في البيئة الرقمية(Knapp,2025؛ Rao,2025).ورغم أن هذه الحلول عادة أقل دقة بكثير من الزرعات الباضعة، فإنها تحظى بميزة أمان أعلى وحاجز دخول أقل من الناحية الأخلاقية والتنظيمية، ما قد يسمح بتسويق بعض المنتجات على نطاق ضيق قبل اكتمال نضج الزرعات المزروعة.مراجعات منشورة في Wiley Online Library تشير بوضوح إلى أن المجال يتجه نحو“منظومة بيئية”تجمع بين واجهات مغروسة عالية الحزمة وأخرى غير غازية أو قائمة على الارتجاع العصبي، مع دور متزايد لخوارزميات التعلم العميق في سد الفجوة بين الإشارات العصبية الخام والوظائف السريرية ذات المعنى مثل الكلام والحركة(Q.Chen,2025؛ Wang,2025؛ Chai,2024).

من زاوية تحليلية، تكشف هذه التطورات أن السباق الحالي ليس سباقاً“تقنياً”بحتاً، بل هو سباق على بناء سلسلة قيمة كاملة من التجربة السريرية إلى التصنيع والتكامل مع الذكاء الاصطناعي والبنية السحابية.Neuralink تراهن على التكامل الرأسي:تصميم الشريحة والروبوت الجراحي والبرمجيات، مع إشارة بعض التقارير إلى وجود قائمة انتظار تضم آلاف المرضى الراغبين في المشاركة، وهو ما يعكس قوة العلامة التجارية وتأثيرها الإعلامي بقدر ما يعكس التقدم التقني.Paradromics، في المقابل، تركز على“العمق الوظيفي”في مجال استعادة الكلام ورفع عرض الحزمة، وتستند إلى خطاب تنافسي واضح يرى أن قدرتها على جمع كميات غير مسبوقة من البيانات العصبية قد تمنحها ميزة في سيناريوهات الاستخدام الواقعية.Synchron تمثل“طريقاً ثالثاً”أقل غزواً يعتمد على زرع عبر الأوعية الدموية، مع بيانات أمان قوية نسبياً ونقطة انطلاق تنظيمية متقدمة، بينما يحافظ لاعبون مثل Blackrock على إرث علمي سريري غني يشكل أساساً للمقارنة والمعايير.ومع دخول مستثمرين كبار وتقديرات مثل تقرير Morgan Stanley الذي يقدّر حجم السوق الأميركية المحتمل بنحو 400 مليار دولار، تتشكل بيئة استثمارية تضغط نحو تسريع الانتقال إلى منتجات قابلة للتسويق قبل 2030(Rao,2024).

مع ذلك، تُظهر المراجعات العلمية الصادرة عن منصات مثل Wiley Online Library أن الطريق إلى تسويق واسع النطاق محفوف بتحديات جوهرية:الحاجة إلى دراسات أكبر وأكثر تجانساً، أسئلة معلّقة بشأن استدامة الإشارة على مدى سنوات، مخاطر العدوى والالتهاب والرفض المناعي، وحاجة ملحّة إلى أطر تنظيمية وأخلاقية واضحة لحماية خصوصية بيانات الدماغ وضمان الاستقلالية المعرفية للمستخدمين(Chen,2025؛ Q.Chen,2025؛ Lavazza,2025).من هذا المنظور، يمكن القول إن الشركات الرائدة–Neuralink وParadromics وSynchron وغيرها–قد نجحت بالفعل في اجتياز العتبة الحرجة من“اختبارات المختبر”إلى تجارب سريرية مبكرة تُظهر فعالية عملية في استعادة التواصل والتحكم الرقمي، لكن الانتقال إلى أجهزة مزروعة تُباع على نطاق تجاري واسع قبل عام 2030 سيعتمد على قدرتها على إثبات السلامة طويلة الأمد، وتخفيض تكاليف التصنيع والزرع، وبناء منظومات أخلاقية وقانونية متماسكة.التداخل بين أدمغتنا والآلات بات واقعاً أوليّاً في غرف العمليات ووحدات الأبحاث السريرية، لكن الشكل الذي سيتخذه هذا التداخل في الحياة اليومية–ومن سيملك مفاتيحه–لا يزال قيد التفاوض العلمي والتقني والسياسي خلال العقد القادم.

 شاهد الفيديو للمزيد

الوسائط والمرفقات

الفيديوهات (1)